قلاع العلمانية في العالم الإسلامي بين التدمير والترميم
منذ سقوط دولة الخلافة الإسلامية سنة 1924 والأمم تتداعى على أمة الإسلام كما يتداعى الأكلة إلى قصعتهم مشيدين الحصون والقلاع العلمانية في كل أقطار العالم الإسلامي، فلم تخلُ منطقة ولم يسلم بلد من تكريس العلمانية الغربية في كل تفاصيل الحياة وفي كل أنماط العيش والعلاقات، فتغربت الأمة في أوطانها وتجردت من هويتها ومفاهيمها طوعا وكرها.
إن ما صنعه الغرب طوال عقود من تكريس للعلمانية وفصل للأمة عن دينها ومنع بروزه في الدولة والشأن العام أصبح ولأول مرة منذ سنوات محل خطر وعلى خط الصراع؛ فبعدما زمجرت الأمة وبدأت تلفظ الطغاة الواحد تلو الآخر دقت طبول الحرب وهرع الغرب إلى قلاعه يحصنها ويجعل عليها حرسا شديدا، وأذاق الشعوب العنت والويلات، فسقوط العلمانية يعني سقوط الغرب لا فكريا فحسب بل سقوطًا حضاريًّا يبشر بانتهاء الهيمنة وميلاد جديد للأمة الإسلامية.
لقد حرصت بريطانيا على أن تزرع العلمانية في تفاصيل تفاصيل الحياة في تركيا بعدما أسقطت دولة الخلافة العثمانية، فمنعت عن طريق عميلها مصطفى كمال كل مظاهر الإسلام بداية بالمظاهر الفردية ومرورا بالمظاهر الجماعية، وقضت على نمط العيش الإسلامي وجعلت العلاقات والأنظمة منفصلة مبتورة عن الإسلام لا تمت له بصلة ولا تعترف به لا جزئيا ولا كليا، ولم يكن هذا الأمر مقتصرا على تركيا بل شمل الأمر جميع العالم الإسلامي بمنهجية واضحة وبطريقة صلبة دقيقة تجعل سقوط الحصون العلمانية أمرا ليس بالهين، وهذا ما نلتمسه بعد الثورات التي حصلت في العالم العربي حيث نجحت القوى الغربية الاستعمارية في ترميم قلاعها في معظم دول الربيع العربي، ففي تونس شقيقة تركيا الصغرى والنموذج الكمالي في شمال أفريقيا، فقد نجح الغرب تحت عناوين مختلفة في أن يعيد صياغة العلمانية بشكل جذاب أكثر، فكان ترميما ناجحا فاق كل التوقعات؛ فباسم الإسلام المعتدل والصيغ التوافقية والمصلحة الوطنية صادقت تونس على دستور جديد تنكر للشريعة الإسلامية وقنن الكفر وأصبح مرجعا ومثالا يحتذى. فلعل بريطانيا لم تكن تطمع أن تجد خيرا من بورقيبة لتكريس العلمانية فوجدته ويا للأسف في من ينتحل الصفة الإسلامية وهي منه براء.
وفي مصر الكنانة، وبعد أن اختار الشعب دك حصون العلمانية وفوض لجماعة الإخوان تحريرهم من الأنظمة الفاشلة الظالمة بتطبيق الشريعة الإسلامية لكي تكون رحمة وعدلا، أبت جماعة الإخوان إلا أن تكون حصنا منيعا ضد عودة الإسلام، بل سعت إلى إرضاء الغرب؛ فغازلت الكيان الصهيوني ونفذت الأجندات الأمريكية داخليا وخارجيا ولم تأل جهدا في طلب الرضا من السيد الأمريكي، ولكن دارت الأيام ومهدت جماعة الإخوان، عن طريق خذلانها العقائدي ومراهقتها السياسية، مهدت من حيث لا تشعر لعودة العلمانية المتعجرفة العلمانية الدموية الظلامية الرجعية المتطرفة المتخلفة.
وهكذا كسبت العلمانية مرة أخرى شوطا وحققت مكاسب ما كان لها أن تطمع بها لولا خذلان العملاء وخيانة الجبناء من بني جلدتنا.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا فسد أهل الشّام فلا خير فيكم»، فوسط هذه الأمواج العاتية والحصون العلمانية الشاهقة ومن قصر فرعون المتألّه في الشّام تخرج ثورة الأمة لتعلن الحرب الضروس ولتعلن بداية التحرير وإعادة الأمل وقرب نهاية الأجل للعلمانية المضطربة، فخلطت ثورة الشام كل أوراق الغرب وجعلتهم في اضطراب لم يعهدوا له مثيلا؛ تجمعوا واتحدوا وقرروا الإجهاز على ثورة نادت بأعلى صوتها أنها عدوة لدودة للعلمانية وأنها ماضية نحو اقتلاعها ودك حصونها وتدمير قلاعها، فنادى فرعون مستغيثا وقال إن سوريا هي آخر معاقل العلمانية”، فأجابه الشعب في سوريا “لا علمانية لا ديمقراطية بل خلافة إسلامية”، فبهت الغرب الكافر وجمع جمعه وعقد المؤتمرات وكثف المؤامرات، ولا يزال يحث الخطى محاولا إجهاض ثورة مخلصة عرفت طريق تحررها وسبيل مجدها وعزتها، نعم من أعتى قلاع العلمانية تخرج الفئة المؤمنة الصابرة التي ستغير مجرى التاريخ بإذن الله، كما خرج موسى من قصر فرعون.
فالتغيير يصنع على عين الله، ورجاله ألقى الله عليهم محبة من عنده وهو ناصرهم لا محالة.
إن الأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة مفصلية، يفصل الله بها بين الحق والباطل، ويفرق بها بين الصدق والنفاق، فيجعل تدبير المنافقين في تباب ويجعل عمل المخلصين في خير وصواب، وقد حان لهذه الأمة أن تستعيد خيريّتها فتلفظ من كان سببا في تحصين قلاع عدوها، وتضع يدها في يد المخلصين من أبناء الأمة لكي تكون الدولة الإسلامية هي الحل لمشاكلهم والعمل على إقامتها هي قضيتهم التي يبذلون في سبيلها المهج والأرواح، وطلب رضا ربهم هو منتهى أمانيهم فيفوزوا بعز الدنيا وشرف الآخرة، ويمكّن الله لهم من بعد خوف وتدمر قلاع الشر والطغيان، ويقوم على أنقاضها بناء الإسلام العظيم ليهب الرحمة للعالمين.
﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ﴾
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حبيب الحطاب – تونس