رهان الحكومة للقضاء على الفقر في السودان ﴿كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ﴾
تمر السنوات العجاف على الناس وتقتات على الغالي والنفيس وكل ما تبشر به الحكومة يروح أدراج العواصف العاتية التي لا تُبقي ولا تذر، ولسان الحال يقول كفانا تنظيراً أجوف، نريد حلاً يلامس مشكلة الفقر المستشرية كالنار في الهشيم، وليس مسكنات مؤقتة تُستورَد ممن هم أصل كل مشكلة في عالمنا اليوم؛ مسكنات فقدت مفعولها لا يلبث الألم أن يعود أشد مما كان عليه وأعتى، فيمزق اللحم ويدق العظم الذي أوهنه الفقر الذي تلوكونه بألسنتكم، وأنتم عن حقيقته لغافلون، وعاطلون عن أسباب علاجه التي يجب أن تنبثق عن هوية الناس الذين تحكمون، هوية تمتلك معالجات ضاربة بجذورها في التاريخ؛ والتي ما أن طبقت حتى ردت الزكاة لبيت مال المسلمين لا تجد فقيرا يستحقها، ونثر القمح على رؤوس الجبال كي لا يقال أنه جاع طير في بلاد المسلمين.
العام الماضي قلل السودان من قيمة مؤشرات قياس الفقر الصادرة من منظمات أممية باعتبارها مجافية للحقيقة، وأكد وجود جهود مبذولة من الدولة للحد من الفقر، وأكدت حينها وزيرة الضمان الاجتماعي مشاعر الدولب على أهمية دليل قياس الفقر الحضري (ذو التصميم القومي) باعتباره يستند إلى مؤشرات عربية بحتة تساعد في حل كثير من قضايا الفقر (شبكة الشروق). ليس هكذا تورد الإبل، فإن مشاكل الناس لا تحل باعتبار قوميتهم ولا أي انتماءات أخرى، بل باعتبارها مشكلة إنسانية لإنسان له حاجات عضوية إن لم يشبعها حتما يهلك، ولأن المعالجات لا تختلف باختلاف الناس ما دامت قد وضعت لمعالجة الإنسان بوصفه إنسانا، والحق والعدل أن الدولة لو حكمت أفرادا في بريطانيا وآخرين في أفريقيا الوسطى فلا يصح أن تختلف نظرتها لهم البتة، لأن كلاً منهم إنسان يجب أن تقوم الدولة بحل مشاكلهم جميعا دون استثناء أو تمييز.
إن دليل قياس الفقر الحضري عقدت لأجله دورة تدريبية، قيل للتنوير به وتقديمه بصورة علمية، تستهدف مراكز الإحصاء، وممثلين للمجتمع المدني، والمحليات، والولايات، حتى يصبح الدليل واقعاً ملموساً يمكن تطبيقه، ولا يخلو برنامج على فضائية أو إذاعة أو ورشة أو مؤتمر إلا وسردت الوزيرة بإسهاب وتكرار ممل مشروعات حكومتها ذات الوصفة السحرية للتقليل من نسب الفقر؛ وهي صناديق الضمان الاجتماعي، والتمويل الأصغر والصناديق الخيرية وما أسموه القرض الحسن، وغيرها، والحال يراوح مكانه مما يدل على قصور، لا، بل اعوجاج في المعالجات المطروحة التي لم تلامس يوما جذور المشكلة.
بالأمس في الولاية الشمالية دعت الوزيرة الجميع للعمل من أجل التنمية، وقالت إن أصحاب الحاجات في مقدمة عمل مؤسسات وزارتها نصرة للفقراء والضعفاء!! ولا ندري متى يكون ذلك واقعا ملموساً.
وفى السياق نفسه أكد وزير المالية بدر الدين محمود أن كل سياسات وموازنات العام القادم ستكون مناصرة للفقراء بإحداث التغيير الممكن والتحسين المستمر في مستويات المعيشة، وأكد أن السودان قد استوفى المطلوبات الفنية كافة لإعفاء ديونه الخارجية (سونا 1/3/ 2014م).
جميع (السادة) المسؤولين تحدثوا في الورشة عن شيء واحد هو الداء رغم أنهم يتوهمون بأنهم يقدمون الدواء وهو الارتباط بمن هو سبب الفقر والمشاكل؛ الشركاء والمانحون واستيفاء المطلوبات الفنية والقواعد الدولية من حيث تقوية إمكانات المؤسسات وإجراء الإصلاحات المطلوبة هو تماهٍ مع “الروشتّات” التي تقدمها مؤسسات المال الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) التي لا يهمها فقر الناس بل هي مستعدة للاحتفال على شلالات دمائهم كما يحدث الآن في كل مكان في العالم (أفريقيا الوسطى العراق وأفغانستان…) والقائمة تطول بسبب انتهاج القيم الرأسمالية؛ صانعة الفقر والتي هي أساس التعامل في كل صغيرة وكبيرة، فالنظام الاقتصادي يقوم على تكثير الثروة في أيدي الأغنياء غاضاً الطرف عمدا عن الفقر الناتج من نظامه الضريبي المجحف المعطِّل للمشاريع، إضافة للخصخصة والاحتكار والجمارك، والسودان – مع أنه متعاظم الموارد – فهو دائم الاستدانة الربوية لدرجة أنه ما أن يذكر السودان واقتصاده إلا وتُذكر مديونيته الفلكية؛ التي تزداد كل يوم مما جعلها تتسول الدول الرأسمالية لإعفائها من الديون، والمماطلة من الدول الدائنة بسياسة الجزرة والعصا والتركيع والتنازل لحكومة نسيت أو تناست ما قام به حسني مبارك لرفع الديون عن مصر لكنه قام بدور السمسار الشاطر في حروب الخليج خلال التسعينات، فكان يقبض أولاً ثم يقوم بدوره المطلوب ونتيجة لذلك أعفيت مصر من الديون العسكرية كلها وتبعها إعفاؤها من ديون كانت متراكمة عليها منذ عهد عبد الناصر، ومع ذلك لم يشفع له ذلك يوم قام عليه الشعب في مصر الكنانة، لكن يحدث عندنا العكس حيث تطالب الحكومة بحقهم في إعفاء الديون ودفع حقهم في السمسرة، ونسوا أن الدفع قبل الرفع ينفع دائما، ومن باع بالدَّين مات همًّا وأورث الدفاتر للورثة! ونحن ورثنا بلدا مقسماً مثقلاً بالديون التي لن تنتهي بالتقادم بل تظل كالنخلة تثمر كل عام وجذعها ثابت وفروعها تطاول عنان السماء.
هذا غيض من فيض عن مجافاة الصواب في النظام الاقتصادي الذي لا ينظر إلا للمنفعة الآنية الأنانية؛ ما قاد البلاد إلى حال يرثى لها، فكيف يعالج الفقر ونحن في ظل حكومة تصنع الفقر وتقضي على الفقراء!!
إن معالجة الفقر لا بد أن تستند على عقيدة الإسلام بوصفنا نتعبد الله بذلك ونرجو بركاته فيزيل عنا عنت ومشقة الفقر بأحكام شرعية مباركة. وينظر الإسلام إلى الفقر على أنه عدم إشباع الحاجات الأساسية للفرد إشباعا كاملاً، وقد حدد الشرع هذه الحاجات الأساسية بثلاث حاجات: هي المأكل والملبس والمسكن، وفرض الإسلام العمل على كل قادر لتوفير هذه الحاجات فإن وفرها كان بها، وإن لم يوفرها لنفسه كان واجبًا أن يعينه غيرُه، وقد فصّل الشرع ذلك، فقد أوجبها على الأقارب، قال تعالى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾، وإن لم يكن له أقارب انتقلت النفقة لبيت مال المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «من ترك مالا فلورثته ومن ترك كلاًّ فإلينا»، وفي الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾، وإن لم يفِ بند الزكاة بذلك كان واجب الدولة الإنفاق عليهم من أبواب أخرى، وإن لم توجد فرضت الدولة ضريبة على الأغنياء؛ لأن الشرع قد أوجب على المسلم ذلك وحض على إعانة أخيه قال تعالى: ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، ولكن كل هذه الأفكار القاطعة لجذور إخطبوط الفقر لا بد أن تكون متزامنة مع وجود أنظمة الإسلام الأخرى التي بها تكون الدولة، أساسها العقيدة الإسلامية، تشرع للناس منهجا ربانيا، لبنا خالصا سائغا للشاربين فتكفيهم مؤونة ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أولُواْ الأَلْبَابِ﴾، والشيطان يخوف أولياءه بالفقر، فيثير في نفوسهم الحرص والشح والتكالب. والشيطان يأمر بالفحشاء – والفحشاء كل معصية تفحش أي تتجاوز الحد، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة؛ فالحكم بغير ما أنزل الله ومحاباة الكفار وأخذ تشريعاتهم والانصياع لأوامرهم، والبعد عن منهج الله وعدله، فُحشٌ عظيم. وخوف الفقر؛ كأن يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة، والحرص على جمع الثروة؛ كأن يؤدي ببعضهم إلى أكل الربا هو فاحشة، وهل تركنا للجاهلية سمة؟ على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة سواء أكان من الفرد أم من الدولة اثنين لا ثالث لهما، هنا تظهر حقيقة جلية كالشمس في رابعة النهار أنّ أمام الناس طريق الله وطريق الشيطان؛ أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان. ومن لا يسير في طريق الله سبحانه ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتّبعٌ وعْدَه، ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق؛ المنهج الذي شرعه الله، وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان.
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد؛ كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب. ليست هناك شبهة ولا غشاوة؛ الله أو الشيطان؛ منهج الله أو منهج الشيطان، طريق الله أو طريق الشيطان، ولْيختَرْ ما يشاء ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة وإنما هو الهدى أو الضلال، وهو الحق واحد لا يتعدد، فماذا بعد الحق إلا الضلال!
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم أواب غادة عبد الجبار
2014_03_04_Art_Government_bet_to_eradicate_Poverty_AR_OK.pdf