مع الحديث الشريف من احتكر فهو خاطئ
روى مسلم في صحيحه قال:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ عَنْ يَحْيَى وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ قَالَ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ مَعْمَرًا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ “
جاء في شرح النووي على مسلم:
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ اِحْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئ)
فِي رِوَايَة: (لَا يَحْتَكِر إِلَّا خَاطِئ) قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَاطِئ بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِم .
وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار، قَالَ أَصْحَابنَا: الِاحْتِكَار الْمُحَرَّم هُوَ الِاحْتِكَار فِي الْأَقْوَات خَاصَّة، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِي الطَّعَام فِي وَقْت الْغَلَاء لِلتِّجَارَةِ، وَلَا يَبِيعهُ فِي الْحَال، بَلْ يَدَّخِرهُ لِيَغْلُوَ ثَمَنه، فَأَمَّا إِذَا جَاءَ مِنْ قَرْيَته، أَوْ اِشْتَرَاهُ فِي وَقْت الرُّخْص وَادَّخَرَهُ، أَوْ اِبْتَاعَهُ فِي وَقْت الْغَلَاء لِحَاجَتِهِ إِلَى أَكْله، أَوْ اِبْتَاعَهُ لِيَبِيعَهُ فِي وَقْته، فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ وَلَا تَحْرِيم فِيهِ، وَأَمَّا غَيْر الْأَقْوَات فَلَا يَحْرُم الِاحْتِكَار فِيهِ بِكُلِّ حَال، هَذَا تَفْصِيل مَذْهَبنَا، قَالَ الْعُلَمَاء: وَالْحِكْمَة فِي تَحْرِيم الِاحْتِكَار دَفْع الضَّرَر عَنْ عَامَّة النَّاس، كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْد إِنْسَان طَعَام، وَاضْطُرَّ النَّاس إِلَيْهِ وَلَمْ يَجِدُوا غَيْره، أُجْبِرَ عَلَى بَيْعه دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاس .
إن الاحتكار محرم بنص الحديث, فهو قد وصف مقترفه بأنه خاطئ, أي آثم وعاص, ولا يكون الإنسان عاصياً أو آثماً إلا إذا ارتكب معصية أي عصى الله تعالى، فيكون الاحتكار معصيةً أي حراماً.
فما هو الاحتكار؟ ومن هو المحتكر؟
يقال في اللغة: حكر بمعنى استبدَّ, ومنه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير واحتكر الشيء: جمعه واحتبسه انتظاراً لغلائه, فيبيعه بالكثير، ومن هنا فإن المحتكر هو من يجمع السلع انتظاراً لغلائها, حتى يبيعها بأسعار عالية بحيث يضيق على أهل البلد شراؤها، فكيف يكون ذلك؟
يقوم التاجر بشراء السلعة من السوق وحبسها عنده حتى يفتقدها الناس ويجهدون في طلبها ثم يطرحها في السوق بأسعار عالية فيضطر الناس لدفع تلك الأسعار لحاجتهم للسلعة وعدم توفرها إلا عنده.
يقوم المزارع بحبس إنتاجه من سلعة ما وعدم طرحه في السوق وهو يعلم أنه هو الوحيد الذي يورد هذه السلعة للسوق، مما يشق على الناس حصولهم عليها، وحينها يطرح إنتاجه بأسعار عالية فيضطر الناس لدفع تلك الأسعار مقابل تلك السلعة.
يقوم صاحب مصنع بحبس إنتاج مصنعه أو مصانعه من سلعة معينة يكون هو المصنِّع الوحيد لها، حتى يفتقدها الناس ويشق عليهم إيجادها ثم يطرحها بأسعار عالية.
ومن أشكال الاحتكار المعاصرة، ما يسمى بقوانين حماية الملكية الفكرية، وحماية العلامات التجارية، والصناعات ومنتجات المصانع والشركات المختلفة، فلا يسمح لغيرهم بإنتاج مثل هذه السلعة، وهذا من إفرازات النظام الرأسمالي الذي يقوم على حماية مصالح الرأسماليين.
باختصار, يقوم المحتكر تاجراً كان أو صانعاً أو مزارعاً بحبس السلع التي أنتجها أو استوردها أو اشتراها من السوق المحلية وجمعها عنده، ولا يطرحها في السوق إلا بعد أن يشق على الناس الحصول عليها، فيتحكم في تسويقها وأسعارها، وهذا فيه ما فيه من المشقة على الناس, والرسول الكريم يقول:” من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم, كان حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة “.
والاحتكار محرم في جميع الأشياء من غير فرق بين قوت الإنسان أو قوت الدواب, ومن غير فرق بين الطعام وغيره, وبين ضروريات الناس وكمالياتهم, وذلك لأن معنى احتكر في اللغة: جمع الشيء مطلقاً، ولم تأت بمعنى جمع الطعام أو القوت أو ضروريات الناس، فلا يجوز أن تخصص بغير معناها اللغوي، ولأن ظاهر الأحاديث التي وردت في الاحتكار يدل على تحريم الاحتكار في كل شيء، فقد جاءت تلك الأحاديث مطلقة من غير قيد وعامة من دون تخصيص فتبقى على اطلاقها.
وقد استدل البعض على أن الاحتكار لا يكون إلا في الطعام بأحاديث نصت على تحريم الاحتكار في الطعام منها: روى الأثرم عن أبي أمامة قال:” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطعام “, وهذا استدلال خاطئ, لأن النص على الطعام لا يعني حصر الحكم بالطعام, وإنما هو من قبيل التنصيص على أحد أنواع الاحتكار وهذا لا ينفي الحكم عن بقية الأنواع.
قال الشوكاني: ظاهر الأحاديث أن الاحتكار محرم من غير فرق بين القوت وغيره، وَالتَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الطَّعَامِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصْلُحُ لِتَقْيِيدِ بَاقِي الرِّوَايَاتِ الْمُطْلَقَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ التَّنْصِيصِ عَلَى فَرْدٍ مِنْ الْأَفْرَادِ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْمُطْلَقُ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ عَنْ غَيْرِ الطَّعَامِ إِنَّمَا هُوَ لِمَفْهُومِ اللَّقَبِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلتَّقْيِيدِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ.
احبتنا الكرام، وإلى حين أن نلقاكم مع حديث نبوي آخر، نترككم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.