في إطار حملة الدّعاية لمؤتمر طوق النّجاة الّذي يعقده حزب التحرير في السودان، مقالة من تونس منطلق ثورة الأمّة ورهان الاستعمار اليوم لتكون النّموذج الأبرز للانتكاسات الّتي يسعى لها أعداؤنا. الديمقراطية… سراب خادع
إن الديمقراطية، بما هي حكم الإنسان للإنسان أو بالأحرى استعباد الإنسان للإنسان. حيث يصبح الإنسان مصدرا للتّشريع. وهذه من أفظع الجرائم التي شهدها تاريخ البشرية؛
– جريمة في حق صاحب الأمر “الله عز وجل” القائل في كتابه العزيز ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾، وقال جل ثناؤه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. [الملك: 14]
فالتشريع لله وحده، فهو الخالق والمالك وهو الأعلم بمشاكل هذا الإنسان وكيف تُعالج مصائبه وتَنْتَظِم علاقاته. سواء أكانت الفرديّة منها أم المجتمعيّة أم علاقته بالدولة التي ترعى شؤونه وكذلك علاقة تلك الدولة بالعالم. هذا ببساطة لأن الله هو الذي أنشأ الإنسان بعد أن لم يكن شيئا مذكورا قال تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى﴾.
أي أوجده من العدم، وبرأه على هيئة لم يسبق لها مثيل وصوّره فأحسن تصويره ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
– وجريمة كذلك في حق البشرية، إذ إنّ هذا الإنسان الكائن الحي ذو الطاقة الحيويّة المفكّر، مدفوع في حركته بغرائز وحاجات عضوية تتطلب الإشباع. وبذلك يجد نفسه قد دخل في علاقة مباشرة مع بقية الناس وفي حاجة لمن ينظم له هذه العلاقات حتى يتمكن من إشباع حاجاته وغرائزه بشكل يُمنع فيه التعدي أو الحيف أو ظلم الآخرين.
ولمّا كان عقل الإنسان عاجزا ومحتاجا ومحدودا: محدوداً في مجالات البحث والحكم. إذ إنّه يستحيل عليه أن يبحث فيما لا يقع عليه حسّه، وحتى ما يقع عليه الحس لا يمكنه أن يحكم على صفاته الطارئة الخارجة عنه “كالطيّب والخبيث والحسن والقبيح” لأن هذه صفات تحتاج إلى قاعدة فكرية ينطلق منها البحث لتحديد تلك الصفات، ونقصد هنا العقيدة التي يُحدَّد من خلالها الحكم على صفات الأشياء والأفعال الطارئة. فالخمر مثلا لا يختلف فيه اثنان من أنه عصارة عنب مخمّر، أو أنه مسكر، لكن الحكم عليه بأنه طيب أو خبيث وهل يجوز شربه أو لا فذلك لا يمكن إيجاده في مكوّنات الخمر فكان لا بد من وجود قاعدة فكرية تحدّد لنا هذه الصفات. لذلك فإنّ الخمر حرام عند المسلمين بينما هو حلال بهوى البشر الغافلين. وبالتالي فكل الأحكام التي تصدر عن الإنسان في هذا الباب إنما تكون لزاما متأثرة بأهوائه وشهواته ورغباته ومحيطه حيث يستحيل عليه أن يكون مُطّلعا على كل البشر فردا فردا، ومحدودة بزمانه فقط حيث يستحيل عليه الإحاطة بالزمان من أوّله إلى آخره ومن هنا كانت جميع الأحكام والتشريعات التي أصدرها عقل الإنسان جريمة في حق البشر ولو نقّحوها كلّ يوم مرّة أو مرّتين.
كل ما تقدم هو معلوم عندنا ومفصّل في العديد من الكتب والإصدارات لعلّ أبرزها كتاب الشخصية ج1 للشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله وكُتيّب “الديمقراطية نظام كفر” للشيخ عبد القديم زلوم رحمه الله وفق ما نطق به القرآن العظيم وسنّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم المبعوث رحمة للعالمين.
وقد أردت من خلال هذه السطور الحديث على جريمة أخرى باسم الديمقراطية يراد لها أن تكون، ومن أين؟!! من تونس. فبعد ما حصل في هذا الجزء الطيّب من بلاد الإسلام وهو انطلاق شرارة ثورة سَرَتْ بسرعة البرق لتعمّ عديد المناطق من بلاد المسلمين. وقد كانت إرادة الناس هي إسقاط النظام الديمقراطي العلماني الذي سام الناس سوء العذاب واستهان بحياتهم وأعراضهم وأرزاقهم، وقبل ذلك كلّه بشريعتهم وعقيدتهم.
• وبعد أن فهم الناس أنّه لا بد من نظام يرعى مصالحهم رعاية فعليّة.
• وبعد أن تبدّدت أمام الناس أكاذيب الديمقراطية الزائفة، وتهافت أدعياؤها الذين صدّعوا آذان الشعب بما ينعقون به من كذب وتضليل وهم يُزيّنون الظلم وانتهاك الحرمات، فتبيّنت الأمّة وأهل البلد الحقيقة وهي أنّ النظام الذي كان يسود إنّما هو آلية استبداد وأنانيّة لحساب شخص واحد فقط ألا وهو “الفرعون” وبطانة السّوء حوله، ومن ورائهم أربابهم الكفّار المستعمرون الذين استبدّوا بخيرات البلاد والعباد. دول استعماريّة تتنفّذ في رقابنا وحكّام رويبضات نذروا أنفسهم لتأمين مصالح أسيادهم يتربّصون بالإسلام ويكيدون لحملة الدعوة ويحاربون من يقول “ربّيَ الله”. وهذا كلّه أصبح ظاهرا ومعلوما عند الجميع.
• وبعد أن دبّ وعي لدى الناس بضرورة أن يكون الإسلام هو البديل على ظلم الديمقراطية الفاجرة بما شهدوه مما أسلفنا وأكثر.
• وبعد تهيؤ الأجواء لعرض أفكار الإسلام على الناس ونقاشها وصرع كل أفكار الديمقراطية والعلمانية وكل ما وافقهما، وحتى ما سُمي إفكا وافتراء “إسلام معتدل” فقد بان تهافته وأنّه وسيلة خبيثة لأسلمة الكفر.
• وبعد أن أدرك الناس أنّ لا عدل إلا في الإسلام، ولا خلاص لهم إلاّ بإقامة حكم الله.
بعد كلّ هذا، يخرج علينا أدعياء الديمقراطية والمضبوعون بها، يحاولون بأساليبهم القذرة إعادة إحياء فكرة سقطت كل دعائمها ولن تقوم لها قائمة ولم يبق لها سوى إعلان موتها. تارة يصوّرون للناس أن العيش في ظل الديمقراطية كأنه جنّة بزعمهم وأن الإسلام رِجعيّة وتطرّف وظلاميّة. وتارة يروّجون بأن الديمقراطيّة هي جوهر الإسلام بما فيها من حريّة التعبير والمعتقد وحق الاختيار، وتارة أخرى يقولون إن الديمقراطيّة هي مرحلة التدرّج نحو التحرّر.
مثلهم كمثل القائل “إبليس ينهى عن المنكر”.
تبّا وتعسا لهم، خسئوا بما يصنعون. ألم يسمع هؤلاء قول الله عز وجل ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النحل: 26]
أي أن بيت العنكبوت الذي بني بالكفر والظلم والقهر قد تحطّمت أركانه وقواعده ولن يقوم مرّة أخرى بإذن ربّ العالمين وتلك سنة الله ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ۖ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23]. فقد تهدّم في العقول والنفوس نظام الأهواء والشهوات وصارت أمّة الإسلام تدرك أن هذا النظام يستجلب سخط ربّ العالمين وأنه لا يرعى شؤون الناس.
هذا جُرم يضاف إلى جرائم أدعياء الديمقراطيّة. فبعد أن تداعت كل مزاعمهم في كل بقاع الأرض وبعد أن تاق الناس للتحرّر من استعباد الإنسان للإنسان وطلبوا العيش تحت نظام عادل حيث لا ظلم ولا جور وبعد أن اتّضح سبيل الخلاص وتوفرت مقوّماته:
– رأي عام تجلّى عند المسلمين على وجوب تحكيم شرع الله وهم يطلبون التحرّر على أساس شريعة الرحمن حيث لا ظلم ولا حيف، وإن يكن فحرام عليهم ألاّ يأخذوا على يد الظالم.
– وحزب أعدّ رجالات دولة، قادرين بعون الله أن يُعيدوا سيرة الأوّلين بفكر مبدئي.
– وحول هؤلاء وأولئك وبينهم، رجال في مكامن القوة والقدرة يجب أن يغتنموا فرصة ربّانيّة تاريخيّة ليكونوا كأسيد بن حضير وسعد بن معاذ أهل نُصرةٍ للإسلام وأهله.
فبعد كل هذا الخير الذي منّ الله به علينا، يخرج علينا شِرذمة باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم ليكونوا دعاة على أبواب جهنّم ويصدّون عن سبيل الله وليكونوا حاجزا أمام تحقيق فرض الله ألا ساء ما يصنعون. قال تعالى ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [هود: 19]
إنّ أمانيّهم الخبيثة تلك زيّنها لهم الشيطان وغرّهم تقلّب أعداء دين الله في البلاد وظنّوا أنهم قادرون على نصرهم، فهم بذلك يلهثون وراء سراب خادع سيُرديهم في الأسفلين وقريبا بعون الله سيرون ما كانوا به يُكذّبّون ولات حين مندم.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39]
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير من تونس
أحمد بن يوسف المي – أبو عبد الرحمن