مع الحديث الشريف الجهاز الإداري مصالح الناس
نحييكم جميعا أيها الأحبة في كل مكان، في حلقة جديدة من برنامجكم “مع الحديث الشريف” ونبدأ بخير تحية، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
روى مسلم في صحيحه قال:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالَ يَحْيَى وَاللَّفْظُ لَهُ: أَخْبَرَنَا، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ:
“بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ”
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره رئيساً للدولة، يدير مصالح الناس في الدولة، ويرعى شؤونهم ويحل مشاكلهم وينظم علاقاتهم ويؤمن حاجاتهم ويوجههم فيها لما يصلح أمرهم، يقوم بهذه الأعمال بنفسه، أو يعين لها كتاباً لإدارتها، فهذه الأعمال هي من الشؤون الإدارية التي تيسر عيش الناس وتجعل حياتهم تسير دون مشاكل أو تعقيد:
وها هو في هذا الحديث الشريف يتولى توفير حاجة هامة من حاجات الرعية، وهي الحاجة للتطبيب، فالتطبيب من الحاجات الضرورية للناس، لذا فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم طبيباً يعالج المرضى من الرعية ويصف لهم الدواء اللازم لشفائهم وإعادة الصحة لأجسامهم، فالتطبيب مصلحة حيوية من مصالح الرعية التي على الخليفة أن يوفرها لهم، فعلى الدولة أن توفر الأطباء والمشافي والأدوية والأجهزة الطبية والمختبرات وكل ما يحتاجة التطبيب من مواد وأدوات وأشخاص متخصصون بشتى التخصصات الطبية حتى يتوفر للناس ما يحتاجونه من موجبات الصحة والتعافي.
ومصالح الناس كثيرة ومتعددة ولا تقتصر على الحاجة للتطبيب، فهناك الحاجة للتعليم ولشق الطرق، وتوفير وسائل المواصلات، والحاجة لتوفير الماء والمراعي والكهرباء والتدفئة، إضافة إلى توفير آلات وأدوات الزراعة من حصادات ودرَّاسات وبذور وأشتال ومبيدات للآفات الزراعية، فوق توفير أسواق للمنتوجات وكل ما يحتاجه المزارعون، وقل مثل ذلك عن التجار والصناعيين وسائر أصحاب الحرف والأعمال، ومصالح الناس كما ذكرت كثيرة ومتعددة لا يمكن حصرها هنا أو تعدادها لكن ما يمكننا التأكيد عليه أن رعاية هذه المصالح هي من واجبات الدولة استناداً لأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم حين حين أهدي إليه طبيب جعله للمسلمين، ولم يستخلصه لنفسه مما يدل على أن التطبيب مصلحة من مصالح المسلمين.
وفي أمر التعليم روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، «فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة» «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»
ولما كان بدل الفداء هو من الغنائم التي هي ملك للمسلمين فإننا نفهم من عمله هذا أن توفير التعليم مصلحة من مصالح المسلمين.
أما في مجال الأعمال فقد روى أبو داوود في سننه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: “أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ، قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ.
وفي شؤون الطرق نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطرق في وقته بأن جعل الطريق سبعة أذرع عند التنازع، فقد روى البخاري عَنْ عِكْرِمَةَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
“قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ”
كما منع صلى الله عليه وسلم العدوان على الطريق، فقد أخرج الطبراني في الصغير: عن الحكم بن الحارث السلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من أخذ من طريق المسلمين شبرا طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين»
أما في الزراعة فقد روى مسلم في صحيحه عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ:
“أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ”.
وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدير مصالح المسلمين ويحل مشاكلهم الإدارية بسهولة ويسر وكان يستعين ببعض الصحابة في ذلك، وعليه تكون مصالح الناس جهازاً يتولاه الخليفة أو يعين له مديراً كفؤاً يتولاه، وتخفيفاً عن الخليفة خاصة مع تشعب المصالح وتكاثرها، فقد تبنى حزب التحرير أن يكون هناك جهاز لمصالح الناس يتولاه على وجهه مدير كفؤ بأساليب ووسائل تيسر على الرعية عيشها ويوفر لها الخدمات اللازمة دونما تعقيد.
وهذا الجهاز يتكون من مصالح، ودوائر، وإدارات: كالتابعية، والمواصلات، وسك النقود والتعليم والصحة والزراعة والعمل والطرق وغيرها
والمصلحة تتولى إدارة المصلحة ذاتها وما يتبعها من دوائر وإدارات.
والدائرة هي التي تتولى شؤون الدائرة نفسها وما يتبعها من إدارات.
والإدارة هي التي تتولى شؤون الإدارة ذاتها وما يتبعها من فروع وأقسام.
وهذه المصالح والدوائر والإدارات إنما تُنشأ وتقام لأجل النهوض بشؤون الدولة ولأجل قضاء مصالح الناس. ولضمان سير هذه المصالح والدوائر والإدارات لا بد من تعيين مسؤولين لها. فيعين لكل مصلحة مدير عام يتولى إدارة شؤون المصلحة مباشرة ويشرف على جميع الدوائر والإدارات التابعة لها. ويعين لكل دائرة ولكل إدارة مدير يكون مسؤولاً عنها مباشرة وعما يتبعها من فروع وأقسام.
ومن الجدير ذكره أن لكل من يحمل التابعية وتتوفر فيه الكفاية، رجلاً كان أو امرأة، مسلماً أو غير مسلم، أن يعين مديراً لإدارة أية مصلحة من المصالح وأن يكون موظفاً فيها، وذلك مأخوذ من أحكام الإجارة، لأن المديرين والموظفين في الدولة أجراء وفق أحكام الإجارة فيجوز استئجار الأجير مطلقاً، سواء أكان مسلماً أو غير مسلم، وذلك لعموم أدلة الإجارة وإطلاقها، فالله تعالى يقول: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. وهو عام لم يخصص بالمسلم. وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “قَالَ اللَّهُ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ”، وهو مطلق غير مقيد بالأجير المسلم، أو بالرجل دون المرأة.
هذا هو الجهاز الإداري في دولة الخلافة … جهاز قائم لأجل قضاء مصالح الناس بيسر وسهولة فتتبنى الدولة لها القوانين السلسة والميسرة وتختار لها المدراء والمسؤولين الأكفاء فلا نعود لتعقيدات الأنظمة الحالية التي تحيل حياة الناس إلى جحيم وعذاب، بسبب الأنظمة المعقدة العقيمة والرشاوى والمحسوبيات.
اللهم عجل لنا بدولة الخلافة ومتعنا برعايتها … يا سميع يا مجيب.
أحبتنا الكرام، وإلى حين أن نلقاكم مع حديث نبوي آخر، نترككم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.