مع الحديث الشريف – الجهاز الإداري أسلوب إدارة وليس حكما
نحييكم جميعا أيها الأحبة الكرام في كل مكان، في حلقة جديدة من برنامجكم “مع الحديث الشريف” ونبدأ بخير تحية، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
روى ابن ابي شيبة في مصنفه قال: حدثنا غسان بن نصر عن سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن جابر قال: لما ولي عمر الخلاقة فرض الفرائض ودون الدواوين وعرف العرفاء قال جابر: فعرفني على أصحابي.
أحبتنا الكرام:
الدواوين هي أجهزة إدارة المصالح، أو الجهاز الإداري.
والجهاز الإداري هو أسلوب من أساليب القيام بالفعل، ووسيلة من وسائله،
والأسلوب هو الفعل الذي يكون فرعاً لفعل قد جاء له ـ أي للأصل ـ دليل عام، ولم يأت لهذا الفرع دليل خاص به فيكون دليل أصله العام دليلاً عليه … ولذا فهو لا يحتاج إلى دليل خاص به، ويكفي الدليل العام الذي يدل على أصله، فيشمل كل ما يتفرع عنها من الأفعال. ولا يقال إن هذه الأساليب أفعال للعبد فلا يصح أن تجري إلا حسب الأحكام الشرعية، لا يقال ذلك لأن هذه الأفعال جاء الدليل الشرعي على أصلها عاماً، فشمل كل ما يتفرع عنها من أفعال إلا أن يأتي دليل شرعي على فعل متفرع عن الأصل فحينئذ يُتبع حسب الدليل، ومثالها: قوله تعالى: (وَآَتُوا الزَّكَاةَ) وهو دليل عام، وجاءت الأدلة على الأفعال المتفرعة عنها، لمقدار النصاب، وللعاملين وللأصناف التي تؤخذ منها الزكاة، وكلها أفعال متفرعة عن” وَآَتُوا الزَّكَاةَ ” … لكن قيام العمال بجمع الزكاة، هل يذهبون راكبين أم ماشين، هل يستأجرون معهم أجراء لمساعدتهم أم لا، وهل يحصونها بدفاتر؟ وهل يتخذون لهم مكاناً يجتمعون فيه؟ وهل يتخذون مخازن لوضع ما يجمعونه فيها؟ وهل توضع هذه المخازن تحت الأرض أم تبنى كالبيوت للحبوب؟ وهل زكاة النقد تجمع في أكياس أو بصناديق؟ فهذه وأمثالها أفعال متفرعة عن وَآَتُوا الزَّكَاةَ لكن لم تأت أدلة لبيان كيفية القيام بها، لذا فإنه يستدل عليها بالدليل العام لأنه يشملها إذ لم يأت لها دليل خاص بها. وهكذا جميع الأساليب، فإنه يشملها الدليل العام الذي دل على أصلها، ما لم يأت لها دليل خاص بها.
وعليه فإن الأساليب الإدارية يمكن أخذها من أي نظام إلا إذا ورد نص خاص يمنع أسلوباً إدارياً معيناً، وما عدا ذلك فيجوز أخذ الأساليب الإدارية إن كانت مناسبة لتيسير عمل الأجهزة الإدارية، وقضاء مصالح الناس. لأن الأسلوب الإداري ليس حكماً يحتاج إلى دليل،
لذا فقد أخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أسلوب الدواوين عن الفرس والروم، فقد روى عابد بن يحيى عن الحارث بن نُفَيْل أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال، ولا تمسك منه شيئاً. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه أرى مالاً كثيراً يسع الناس، فإن لم يُحْصَوا حتى يُعْرَفَ من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال الوليد بن هشام بن المغيرة: قد كنت بالشام، فرأيت ملوكها قد دَوَّنُوا ديواناً، وجندوا جنودا، فَدَوِّن ديواناً، وجند جنودا، فأخذ بقوله، ودعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من نُسَّابِ قريش، وقال: ” اكتبوا الناس على منازلهم ” …
ثم بعد ظهور الإسلام في العراق جرت الدواوين على ما كانت عليه من قبل، فكان ديوان الشام بالرومية، لأنه كان من ممالك الروم، وكان ديوان العراق بالفارسية لأنه كان من ممالك الفرس. وفي زمن عبد الملك بن مروان نقل ديوان الشام إلى العربية، ثم تتابع إنشاء الدواوين حسب الحاجة وما تقتضيه مصالح الرعية. فكانت الدواوين التي تختص بالجيش من إثبات وعطاء، وكانت الدواوين التي تختص بالأعمال من رسوم وحقوق، وكان الديوان الذي يختص بالعمال والولاة من تقليد وعزل، وكانت الدواوين التي تختص ببيت المال، من دَخْلٍ وخَرْج، وهكذا. فكان إنشاء الديوان متعلقاً بالحاجة إليه، وكان أسلوبه يختلف من عصر إلى عصر، لاختلاف الأساليب والوسائل .وكان يعين للديوان رئيس ويعين له موظفون ، وكانت تسند لهذا الرئيس صلاحيات تعيين موظفيه في بعض الأحيان ويعينون له تعييناً في أحيان أخرى .
أما عن مسؤولية موظفيها فإنهم أجراء وفي نفس الوقت هم رعايا، فهم من حيث كونهم أجراء، أي من حيث قيامهم بعملهم مسؤولون أمام رئيسهم في الدائرة، أي أمام رئيس الدائرة. ومن حيث هم رعايا مسؤولون أمام الحكام من ولاة ومعاونين، ومسؤولون أمام الخليفة، وهم مقيدون بأحكام الشرع وبالأنظمة الإدارية.
والخلاصة.. فإن إدارة المصالح ليست حكماً بل هي من الأساليب، ويتبع في إنشائها: الحاجة، وما ينهض بأعباء هذه الحاجة من أساليب العمل ووسائل القيام بها ، فيجوز أن تختلف في كل عصر وأن تختلف في كل ولاية وأن تختلف في كل بلد وفق ما تستدعيه مصلحة الرعية.
أحبتنا الكرام، وإلى حين أن نلقاكم مع حديث نبوي آخر، نترككم في رعاية الله،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.