رمضان الذي نريد.. رمضان كما يجب أن يكون
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الحمد لله الذي خلق الأرض والسماوات، الحمد لله الذي علم العثرات، فسترها على أهلها وأنزل الرحمات، ثم غفرها لهم ومحا السيئات، فله الحمد ملء خزائن البركات، وله الحمد ما تتابعت بالقلب النبضات، وله الحمد ما تعاقبت الخطوات…
تعيش الأمة الإسلامية لحظات عظيمة من السعادة؛ لأنها ترحب بضيف عزيزٍ، ألا وهو شهر رمضان المبارك. هذا الضيف يفيض عليها كل عام باليمن والبركات والخير والرحمة، ضيف ينتظره الكبير والصغير، ينتظره الرجل والمرأة، وينتظره الغني والفقير، ألقى الله عز وجل محبته في قلوب المؤمنين جميعًا حتى في قلوب الأطفال الذين لا يعرفون صيامًا ولا قيامًا… في هذا الشهر شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار… شهر القرآن والطاعات والخشوع تغلق أبواب النار وتصفد الشياطين وتعتزل العادات السيئة والمعاصي.
فكان رمضان شهرًا تزكى وتُبنى فيه النفوس، وركنًا من أركان الإسلام الخمسة التي اختارها الله سبحانه من كل أبواب الإسلام الضخمة وجعلها أعمدة للإسلام، ومن هذه الأعمدة رمضان.
إذن فشهر رمضان ليس مجرَّد شهر يمّر على المسلمين ليسعدوا به لحظات ويحزنوا لفراقه لحظات ثم ينتظروه العام القادم؛ فشهر رمضان عمود من الأعمدة التي تحمل الإسلام. فتخيّلوا معي أن هذا العمود غير موجود، أو تخيلوا أن هذا العمود مغشوش أو هش. تخيلوا أن به خللاً في التصميم أو خللاً في التطبيق، ماذا ستكون النتيجة؟ سينهار البناء بأكمله، عمود واحد فقط ينهار من أجله البناء، نعم ينهار البناء الضخم بالكلية..
إذن الأمر في غاية الأهمية إن كنا نريد بناءً قويًّا صُلبًا لهذه الأمة، فلا بُدَّ أن يكون أساسه متينًا، ومن ثَمَّ لا بُدَّ أن يكون صيام رمضان على أعلى درجات الإتقان؛ حتى يحمل فوقه صرح الإسلام العظيم الرائع.
بهذه العزيمة وبهذا الفكر ومن هذا المنطلق نريد أن نكمل رمضان، نريد أن ينتهي رمضان وقد أصبحنا مؤهَّلين لحمل الصرح العظيم والأمانة الكبيرة.
فالقضية ليست قضية صيام فقط، ولكنها قضية بناء أمة، أو فلنقل: بناء خير أمة؛ فكيف يبني رمضان أمة الإسلام؟
المسلم يحتاج لنوع خاصٍّ جدًّا من التربية، ورمضان يقوم بهذه المهمة؛ فلن يستطيع أحد أن يُجاهد أو يُضحي أو يثبت إلا إذا أخذ قسطًا من التربية. رمضان يربي فينا سبع خصال؛ يربي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عز وجل بصرف النظر عن حكمة الأمر، كما يربي فينا التحكم في الشهوات التي تصرف في مكانها الصحيح الذي أراده الله عز وجل، التحكم في الأعصاب والقدرة على كظم الغيظ. ويربينا أيضًا على الإنفاق في سبيل الله، كما يربينا على شعور عظيم هو شعور الوحدة والأخوة والألفة بين كل المسلمين في كل بقاع الأرض، الشعور بآلام الغير ومشاكل الآخرين.
وأخيرًا فإن رمضان يربي فينا أمرًا مهمًّا جدًّا، هذا الأمر هو لب الصيام، وهو الغاية منه، رمضان يربي فينا “التقوى”. تقوى الله سبحانه وتعالى.
فالغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى والخشية من الله، هكذا تبرز الغاية الكبرى من الصوم.. والتقوى هي التي توقظ القلوب لتؤدي هذه الفريضة طاعةً لله وإيثارًا لرضاه.
وإن من أسرار الصيام، وآثار شهره الكريم أنه يبعث القوة في نفوس الصائمين، وخير شاهد على ذلك انتصارات المسلمين الباهرة في شهر رمضان؛ كيوم بدر، واليرموك، والقادسية وفتح الأندلس، وجلولاء، وحطين وغيرها.
فقد انتصر المسلمون تقريبًا على كل الفرق المعادية للإسلام في شهر رمضان، انتصرنا على المشركين في بدر وفتحنا مكة، انتصرنا على الفرس عُبَّاد النار في البُوَيْب، انتصرنا على الصليبيين في وادي برباط في الأندلس، وأيام صلاح الدين في فتح صفد، وانتصرنا على التتار في عين جالوت، وكذلك حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ، التي اشتهرت بحرب 6 أكتوبر سنة 1973م، كانت انتصارا مجيدا؛ فالحواجز التي عبرها الجيش المصري تدخل في عداد المعجزات العسكرية، والروح الإيمانية كانت مرتفعة جدًّا عند الجيش وعند الشعب، فكانت النزعة والتربية الإسلامية في الجيش ملموسة وواضحة، ونداء (الله أكبر) كان يخرج من قلب كل مسلم، وكان ممكن لهذه الحرب أن تحرر فلسطين والجولان وسيناء لولا خيانة السادات، والمقام هنا ليس مقام تفصيل، ولا ننسى أنه وفي نفس الشهر تم فتح الأندلس وما أدراك ما الأندلس وقرطبة… هذا الشهر تتغير فيه أحوال الأمة بشكل رائع؛ علامات في منتهى الوضوح، في هذا الشهر الكريم هدم الرسول صنم هبل، وهدم معه أكثر من 360 صنمًا بداخل الكعبة المشرفة، وهذه الأصنام ظلت داخل الكعبة 21 سنة، بداية من نزول البعثة على الرسول عليه الصلاة والسلام، ربنا سبحانه وتعالى يختار أن هذه الأصنام تُدَمَّر وتكسر وتقع في شهر رمضان.
وفي الشهر نفسه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ليهدم صنم العزى، فهدمها.
وفي الشهر نفسه بعث عمرو بن العاص ليهدم صنم سواع، فهدمه.
وفي الشهر نفسه بعث سعد بن زيد ليهدم صنم مناف، فهدمه.
وليس عنا ببعيد نستحضر شهر رمضان لسنة 2011 حيث انتصر إخواننا في ليبيا على طاغيتهم معمر القذافي فكان سقوطه استكمالاً لسقوط أعداء الإسلام عبر التاريخ.
إن المسلم عندما يعيش في رحاب هذا الشهر الكريم، وتأخذه أجواؤه الإيمانية، فإننا نرى أن معاني رمضان يستدعي بعضُها بعضاً وتصبح وكأنها جميعها تصب في جانب واحد يبقى طاغياً على ما عداه. والأمة الإسلامية اليوم تشدها أوضاعٌ واحدةٌ وتشغل بالها وتؤلمها، فلا بد من أن تعتمل هذه الأوضاعُ في نفوس المسلمين وتدفعهم لأن يوجهوا كل طاعتهم باتجاه ما يحققها عملاً وقولاً. ولا بد من أن تكون موجودةً في فكرهم وشعورهم، حين سجودهم، وحين دعائهم، وحين استغفارهم، وحين أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وحين تذاكرهم بمعاني القرآن الذي يقرأونه… لا بد من لفت النظر إلى أن المسلمين في هذه الأجواء الطيبة، عليهم أن لا يكثروا الكلام في الوضع السيئ الذي يعيشون فيه، بل بالعلاج لهذا الوضع السيئ، وعليهم أن يتذكروا في مثل هذه الأجواء الإيمانية أن أحب عمل يقرب إلى الله هو العمل لإظهار دينه وإعلاء كلمته، ولا يكون ذلك إلا بإقامة الخلافة الراشدة التي تكون على منهاج النبوة التي أظل زمانها كما يدل ويشير الواقع وهنيئاً لمن بنى في صرحها حجراً. ولا يمكن الوصول إلى إحقاق الحق وإظهار الدين بالدعاء وحده، وإن كنا أحوج ما نكون إلى التضرع والاستغاثة، ولا بالتمني والرجاء وإن كان رجاء الخير خيراً، بل بالعمل الجاد والتأسي بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تفرض على أهل القوة والمنعة من المسلمين المخلصين التجاوب مع الثلة المؤمنة من أبناء هذه الأمة، مع الطائفة التي ترجو أن يظهر الله على يديها هذا الدين، والتي توجب عليهم أن يفتشوا عنها لينصروها نصرةً لهذا الدين.
وهنا دعونا نسأل أنفسنا..؛ ماذا لو كان هذا آخر رمضان لنا؟؟
لو أننا نعلم أن هذا رمضاننا الأخير ما نسينا أمّتنا فجراحها كثيرة، وأزماتها عديدة، فكيف نقابل ربنا ولسنا مهمومين بأمتنا؟! فلسطين محاصَرة.. والعراق تنزف.. وأفغانستان كذلك.. واضطهاد في الشيشان، وبطش في كشمير، وتفتيت وانقسام في السودان، وتدمير في الصومال وتقتيل ومغالطات في العراق.. ووحوش الأرض تنهش المسلمين.. والمسلمون في غفلة! ولا ننسى أهلنا في بلاد الشام ونظام الطاغية بشار يذبح فيهم لا يفرق بين رجلٍ وامرأة ولا بين طفل أو عجوز…
ماذا سنقول لربنا ونحن نقابله غدًا؟!
هل ينفع عندها عذرٌ أننا كنا مشغولاًت بالطبخ، أو مهمومات بأخبار فنية، أو حتى مشغولات بأنفسنا وأسرنا؟!
أين شعور الأمة الواحدة؟!
هل نتداعى بالحُمَّى والسهر لما يحدث من جراح للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟!
وحتى والله لو كنا مشغولات بصلاتنا وقيامنا، هل يَقبل ربنا عذرنا أننا نسينا رجالاً تُقتَّل، ونساءً تُغتَصب، وأطفالاً تُشرَّد، وديارًا تُدمَّر، وأراضي تُجرَّف، وحُرمات تُنتَهك؟! لا والله ما هو بعذر.
أين شعور الأمة الواحدة؟!
لقد أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بالفطر وهم يتَّجِهون إلى مكة ليفتحوها بعد خيانة قريش وبني بكر.. إن الصيام يُؤخَّر، والجهاد لا يُؤخَّر..
فيا أمتي، العملَ العملَ.. والثبات الثبات.. والصدقَ الصدق؛ فما بقي من عمر الدنيا أقل مما ذهب منها، والكيِّس ما دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مريم أم حمزة – تونس