اَلْخِلافَةُ فرضٌ وَتَعَبُّدٌ لِلَّهِ تَعَالَىْ فَمَا بَالُنَا نَسْرِعُ لِلصَلاةِ وَالصَوْمِ وَالزَكَاةِ وَالْحَجِّ وَلا نَهتَمُّ بِهذا الفَرْضِ العظيم
نعم إن الحكم بما أنْزل الله في كتابه هو فرضٌ على المسلمين لا خيار لهم فيه أمام الله، كما هو الحال بالنسبة للصلاة والزكاة والحج والجهاد؛ كلها فرائضُ فرضها الله علينا، وهي بالتالي واجبة الأداءِ إذا حان وقتها، فإذا قضى الله ورسوله أمرا فلا خيار لمؤمن في هذا الأمر إلا الاتباع، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾، هكذا فهم صحابةُ رسول الله هذا الأمر؛ فهموا أن الحكم لله، وفهموا أن نظام الحكم كما جاء به الله ورسوله هو نظام الخلافة، فكان أبو بكر أول رئيس للأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت صِفتُه السياسية بين أصحابه ولدى كل دول العالم آنذاك هي أنه خليفة المسلمين، وكذلك كان الفاروق ومن بعده ذو النورين وليس آخرهم أبو الحسن، بل إن كل من تَسَلَّم رئاسة المسلمين كانت صفته السياسية هي خليفة المسلمين حتى آخِر خلفاءِ الدولة العثمانية، بل إن صحابةَ رسول الله رضوان الله عليهم فهموا أكثر من ذلك في موضوع فرضية الحكم بما أنزل الله وضرورة توحيد الأمة تحت راية واحدة هي راية الحكم بما أنزل الله بمبايعة خليفة لهم، فهموا أنه إذا خلا هذا المنصب من شاغله، أي إذا مات رئيس المسلمين وهو النبي أو الخليفة من بعده فإن تنصيب خليفة للمسلمين هو الأمر الأهم من أي أمر آخر على الإطلاق. فها هم عندما فُجِعوا بوفاة حبيبنا ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم سارعوا إلى سقيفة بني ساعدة ليتفقوا ويبايعوا واحدا منهم يخلف رسول الله وتسير الأمة من خلفه، يـأتمرون بأمره فيسمعوا ويطيعوا، وهكذا كان فقد جلسوا قرابة الثلاثة أيام وهم يتداولون ويبايعون خليفةَ رسول الله، ليقود الأمة بعد رسولنا الكريم. فقد توفي رسولنا الكريم يوم الاثنين لكنه لم يتم دفنه إلا صباح الأربعاء. كيف يحصل ذلك وقد علَّمنا رسولنا أن إكرامَ الميت دفنه؟! كيف لا نكرم من علمنا أصول الكرم والإكرام في حالة الوفاة؟! كيف ينسى أبو بكر صاحبَه ميتاً مسجا ببرده ويسارع إلى سقيفة بني ساعدة فينشغل عن واجب دفنه؟! كيف ينسى ذلك عمر الفاروق الذي لم يكن يقبل بفكرة موت النبي عليه السلام من شدة حبه له وهول الصدمة؟! لا بل كيف ينسى كل الصحابة هذا الأمر؟! هل هو سِباق على الزعامة والجاه والسلطان؟! ثم أين أبو الحسن صِهر الرسول زوج الزهراء فكيف يسكتُ على انشغال الصحابة عن دفن رسول الله وهو صوت الحق القوي الأبلج، عالم وفقيه لا يُشق له غبار في العلم والفقه والجرأة في الحق، فكيف يسكت وهو من لا يسكتُ إلا إذا كان الأمر يُرضي الله ورسولَه؟! ثم لماذا لم يقم هو بِدفن ابن عمه نبيَّ الله ورسولَه سيما وأنّه عرف بما يجري في سقيفة بني ساعدة؟! فلماذا لم يغضب على رفاقة من الصحابة، فيقوم هو وعائلته بدفن رسول الله منفردين؟! فلماذا انتظر أبو الحسن ما سينتهي إليه اجتماع الصحابة في السقيفة؟! الكل غائب عن هذه المهمة، وكأن هذا النبيّ لا أصحاب ولا أرحام له، أتركوك يا رسول الله ميتاً وذهبوا يتقاسمون التركة؟!، كيف يفعلون ذلك وهم صحابتك وأبناء مدرستك؟! كيف يفعلون ذلك؟ أليس في صدورهم قلوب وأفئدة تتجمع حولك فتبكيك؟! أي أمر جلل يأخذهم منك في لحظة فارقة كهذه؟!، مع أنهم كانوا يقفون أمام السيوف والرماح دونك، فما بالُهم ينقلب حالُهم؟! كيف يستقيم هذا الفهم؟! أهؤلاء هم البدريون الذين حدثتنا عنهم؟! أهؤلاء هم النجوم الذين نهتدي بهم إذا اقتدينا بهم؟! أهؤلاء هم الذين بايعوك تحت الشجرة فرضي الله عنهم ورضيت أنت عنهم؟! أهؤلاء هم أصحابك الذين فاخرت بهم الدنيا؟! أتكون خلافتك أهم عندهم من دفنك؟! ألم يكن بمقدورهم أن يؤخِّروا تداولهم حول من يكون خليفة المسليمن بعدك سويعاتٍ قليلةٍ فيواروا جثمانك الطاهر ثم يعودوا يتداولون أمر خلافتك؟!.
إذا كانوا هؤلاء هم صحابتك يا حبيبنا فإن وراءَ الأمرِ شيءٌ أَولى من الدفن، فهؤلاء زكَّاهم الله لنا لنَتَّبِعهم في فهمهم لنصوص آياته وسنَّتِك، فما كان لأبي بكر أن يقف لينعيك للأمة ثم يتركك ويذهب إلى السقيفةِ، إلا لأَمر قدَّرَهُ أنه أهم من الانشغال بدفنك. وما كان لعمر الذي لم يكن يريد أن يصدِّق نبأ وفاتك من شدة حبه وتعلقه بك مهددا من يقول ذلك بضرب عنقه بالسيف، فما كان له حين صدَّق الأمر أن يتركك ويذهب إلى السقيفةِ إلا لأمر جلل قَدَّرَهُ أنه أهم من الانشغال في دفنك، وما كان لصِهْرك وابن عمك الذي رَبيّْتَه في بيتك وزوج حبيبتك فاطمة، وعلَّمته أصولَ كل حق ما كان له أن يسكت عن انشغال رفاقه وانتظارهم حتى يُتِمُّـوا عملية التداول على خلافتك إلا لأمر قَدَّرَهُ بأنه أهمُ من الانشغال في دفنك، لا سيما أنه كان بمقدوره دفنك لوحده مع أهل بيته.
رحماك ربي.. إنه لمشهد يتصرف فيه العباد كما لو كانوا ملائكةً على الأرض يفعلون ما يؤمرون، رحماك ربي كيف ألهمتهم وربطت على قلوبهم ليفقهوا أن وحدة أمر المسلمين وحسم أمر الولاية فيهم أهم من أي شيء، قدموه حتى على دفن حبيبهم؟! رحماك ربي كيف قرأوا الحدث ببصائرهم فتعطلت حواسهم واستسلمت للفهم العميق المستنير لا لمجرد الإحساس؟! رحماك ربي كيف استشرفت بصائرهم ما بعد اللحظة الفاجعة فربطوا جأشهم وتبادلوا أطراف الحديث فيما بينهم وهدفهم جميعا واحد؛ ألا وهو مستقبل الأمة ووحدتها، فهموا وفي لحظات أن من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، نعم هذا هو الفهم الصحيح في أعلى مراتبه، فهموا أن رسول الله قد مات، وأما رسالته فما وُلِدتْ لِتموت، نعم فهو حامل الرسالة ولكنه ليس الْمُرسِل، فالمُرسِل حي لا يموت، وأن حفظ الرسالة واستمراريتها فرض الفرائض كلِها يجب أن يُقدم على كل عملٍ، فكان في هذا الفهم الْمُلْهِم لنا، كان فيه عزاءٌ وأي عزاءٍ لنفوس صحابة رسول الله ورضاً وتسليم لإجماعهم على هذا الأمر، فلا يعرف أن أحداً اختلف على تأخير دفن رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم، وما أن انعقدت البيعة لأبي بكر بخلافة رسول الله من أهل الرأي والمشورة حتى سارعوا إلى المسجد ليأخذوا البيعة له من عموم المسلمين، فانعقدت لأبي بكر بيعة الانعقاد والرضا، وتقدم صفوف المؤمنين ليزفُّوا نبيهم الأعظم بعد أن كانوا قد قاموا بما يرضيه، فلم يواروه الثرى إلا بعد أن كانت أمته بعده تقف جميعها خلف صاحبه الصديق صفاً واحداً كما يقف المصلون وراء إمامهم، فكانت إقامة الخلافة لأبي بكر فرضاً أداه المؤمنون على الوجه الذي يريد الله ورسوله رغم ظروفهم الحزينة، فلم تكن صراعاً بينهم على السلطة، بل كانت عبادةً يرجون فيها رضاء الله بتوحيد صف المسلمين، وهكذا تمت تأدية هذا الفرض العظيم، بأن وَكَّلت الأمة أبا بكر ببيعته خليفة لرسول الله، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».
وما أن استشعر الصديقُ رضوان الله عليه بقرب ساعة لقائه ربَه، حتى جمع أهل المشورة من الصحابة ممن ينعقد برأيهم رأي الناس، أو قل أهل الحل والعقد، وطلب منهم أن يرشحوا من بينهم من يرضون خليفة له قبل وفاته حرصاً منه على وحدة الأمة من بعده، وكأنه بهذا يهيئ المسلمين لاستمرارية هذا الفرض العظيم، تماما كما يتهيأون بالوضوء لأداء الصلاة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة هذا الطلب، وبدأوا يتشاورون حتى انتهى بهم الأمر إلى أخذ رأي أبي بكر نفسه يختار لهم حتى تم اختيار عمر فتهلَّلَت وجوههم، مع أن عمر كان يتهرب من مجرد التشاور حول الأمر خوفا من أن تلبسه المسؤولية المخيفة.
ثم يحين وقتٌ ثالث لتأكيد هذا الفرض العظيم، وذلك بعد أن طُعِن الفاروقُ غدرا ورأى أنه مشرف على الموت، فطلب منه الصحابة أن يختار لهم وهم أهل الحل والعقد، وبعد إلحاح رشح لهم ستة يختارون واحداً منهم خليفة لهم، وأمهلهم ثلاثة أيام ليختاروا واحداً من بينهم، فإذا انقضت الأيام الثلاثة ولم يتفقوا على أحدهم، أمر بقتل المخالف منهم وَوَكَّل خمسين رجلاً لمهمة التنفيذ هذه. لاحظ هنا أن عمر أمر بقتل المخالف من الستة وهم من كبار الصحابة والمبشرين بالجنة إذا اختلفوا على أمر الخلافة، فكيف لعمر أن يحكم بقتل أحد المبشرين بالجنة إذا خالفهم الرأي؟! ألهذه الدرجة هي أهمية توحيد الأمة حول خليفة واحد؟! الجواب نعم. فكان أن قام الصحابة وخلال ثلاثة أيام باختيار عثمان بن عفان ليكون خليفة المسلمين بعد عمر رضي الله عنهم جميعا، وفوق ذلك فإن الفقهاء استنبطوا من إجماع الصحابة هذا قاعدة شرعية مفادها “أنه لا يجوز للمسلمين أن يبقوا بدون خليفة أكثر من ثلاثة أيام إلا أن يكونوا مشغولين بإقامتها”.
ثم يحين موعد آخر لتثبيت هذه الفريضة العظيمة، وفي ظروف مليئة بالفتن والأحداث وفي ظروف لم يكن هناك أحدٌ ينافس أبا الحسن على خلافة المسلمين فانعقدت له البيعة.
هكذا كان صحابةُ رسول الله وخلفاؤُه الراشدون يتعاملون مع موضوع الخلافة على أنه أمر يتقربون به إلى الله كفرض الصلاة، فصبغوا حياتهم الدنيا بصبغة روحانية حيث ربطوا أفعالهم ربطا محكما بصادق النية لفعلها إرضاءً لربهم على النهج الذي رسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالهدف الأول من الفعل هو إرضاءُ الله فإذا رضيَ الله فإنهم راضون بما يأتيهم به ويحققه لهم الله من ثمرات لهذا الفعل، وهكذا يصبح فِعلهم كلُه قربة إلى الله، صلاة كانت أم زكاة أم حجاً أم تطبيق شرع الله وتنصيب الخلفاء ومبايعتهم، حتى في بيعهم وشرائهم وسائر شؤون حياتهم.
فالحكم بما أنزل الله أيها السادة ليس إلا فرضاً علينا فرضه ربُنا الذي نحن عبيدٌ له، فأنا عبدٌ له سواءً كنتُ خليفةً أو أميراً أو أحدَ افراد الرعيّة، والله سيحاسب كلاًّ منا عما هو مسؤول عنه، «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعتيه، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته» فيا ويح من أصبح إماماً للمسلمين أو خليفةً لهم ولم يعطِ الخلافة حقها، أو رأى فيها زعامةً وسلطاناً وجاهاً له دون الناس، يا ويحه؛ ألم يعلم أن أول من يُظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله هو الإمام العادل؟!.
فاللهم اجمعنا على إمام يُحَكِّم فينا شرعك كما تجمعنا كل يوم خلف إمام المسجد فنكبر ونصلي، فيَسِّر اللهم أمرنا وهيئ لنا أمر رُشدٍ وائذن اللهم للخلافةِ الثانية على منهاج النبوة أن تقوم فينا وبنا إنك أنت وليُّنا وناصرنا يا رب البيت، اللهم آمين.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أبو حذيفة – مصر