﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
لم يعش أحد من الأجيال الحالية حالة عزٍ ورفعة وشموخ وإباء كالتي عاشها أجدادنا في ظل دولة الخلافة الإسلامية. وبالتالي لا مجال عند الكثيرين للمقارنة بين الوضع الحالي المتردي الذي يسود في بلاد المسلمين من خلال حكامهم الغرباء عنهم وبين الوضع الناهض الراقي الذي كان سائداً في العالم الإسلامي نتيجة تطبيق الإسلام.
لقد كانت دولة الخلافة شجرة وارفة الظلال، تحمي كل من يستظل بظلها، وكل من يستجير بها ويأكل من ثمارها، بل كانت توزع خيراتها ليس فقط على المسلمين فيها بل على كل حامل لتابعيتها من أهل الذمة الذين كانوا في بحبوحة من الحياة في حمايتها بشكل عجز الشرق والغرب عن مواكبته. قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
وقد تجلت عظمة هذه الدولة من خلال تطبيقها الرائع لأحكام أهل الذمة مما أذهل القاصي والداني، وعجزت بلاد أم الحريات المزعومة عن مجاراته بل حتى الاقتراب منه، كيف لا والرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه يقول: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ويقول: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا».
وقد قام الخلفاء بالسهر على تأدية حقوق أهل الذمة، فتفقدوا أحوالهم، ومن ذلك ما رواه الطبري في تاريخه، في سوقه لحديث عمر إلى وفد جاءه من أرض الذمة “قال عمر للوفد: لعل المسلمين يفضون إلى أهل الذمة بأذى وبأمور لها ما ينتقضون بكم؟ فقالوا: ما نعلم إلا وفاء وحسن ملكة”. تاريخ الطبري (2/503).
ولما جاءه مال الجباية سأل عن مصدره مخافة العنت والمشقة على أهل الذمة، ففي الأثر عنه رضي الله عنه “أنه أتي بمال كثير، أحسبه قال من الجزية فقال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس؟ قالوا: لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا. قال: بلا سوط ولا نوط؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني”. المغني (9/290)، أحكام أهل الذمة (1/139).
ولما تدانى الأجل به رضي الله عنه لم يفُته أن يوصي المسلمين برعاية أهل الذمة فقال: ” أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِأَهْلِ الذِّمَّةِ خَيْرًا , أَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ , وَأَنْ يُقَاتِلَ مِنْ وَرَائِهِمْ , وَأَنْ لَا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ. “. البيهقي في السنن الكبرى.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لأحد عماله على الخراج: “إِذَا قَدِمْتَ عَلَيْهِمْ فَلا تَبِيعَنَّ لَهُمْ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَلا صيفا، وَلا رِزْقًا يَأْكُلُونَهُ، وَلا دَابَّةً يَعْمَلُونَ عَلَيْهَا، وَلا تَضْرِبَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ سَوْطًا وَاحِدًا فِي دِرْهَمٍ، وَلا تُقِمْهُ عَلَى رِجْلِهِ فِي طَلَبِ دِرْهَمٍ، وَلا تَبِعْ لأَحَدٍ مِنْهُمْ عَرَضًا فِي شَيْءٍ مِنَ الْخَرَاجِ؛ فَإِنَّا إِنَّمَا أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ مِنْهُمُ الْعَفْوَ. فَإِنْ أَنْتَ خَالَفْتَ مَا أَمَرْتُكَ بِهِ يَأْخُذُكَ اللَّهُ بِهِ دُونِي وَإِنْ بَلَغَنِي عَنْكَ خِلافَ ذَلِكَ عَزَلْتُكَ.”. الخراج.
وأجلى الوليد بن يزيد نصارى قبرص مخافة أن يعينوا الروم فردهم يزيد بن الوليد الخليفة بعده، يقول إسماعيل بن عياش عن صنيع الوليد: فاستفظع ذلك المسلمون، واستعظمه الفقهاء، فلما ولي يزيد بن الوليد ردهم إلى قبرص، فاستحسن المسلمون ذلك من فعله، ورأوه عدلاً. (فتوح البلدان).
وكان عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – يجعل صدقات بني تغلب – القبيلة النصرانية – في فقرائهم دون ضمها إلى بيت المال.
هذه نبذة من كثير، ونقطة من ماء غزير، تفوقت بها الخلافة وعظم شأنها وانتشر عدلها وازدهرت سمعتها فصار أهل الغرب يأتون إليها لا للسياحة بل ملاذاً لهم من ظلم الكنيسة وسطوة الملوك الظلمة، فعاشوا في سلام ووئام تحتها وأتى من ذرياتهم من علم الحق فاتبعه وصار من المسلمين.
هذه سياستنا فيما يسمى بمصطلح الغرب الرأسمالي Integration أي الاندماج في المجتمع. ومن الجدير بالذكر هنا أن دولة الخلافة لم تجبر غير المسلمين على اعتناق العقيدة الإسلامية، بل تركتهم وعقيدتهم، واشترطت عليهم فقط الخضوع لقوانين الدولة شأنها شأن كل دولة في العالم، بينما فشلت أوروبا في سياسة الاندماج التي انتهجتها لأنها في حقيقتها كانت سياسة ذوبان ومحاولة تضييع شخصية المسلمين بعكس ما قام به الإسلام في دولته بالنسبة لأهل الذمة من عدل وأمن وأمان.
لقد رفعت الدول الفاشلة في المنطقة الإسلامية شعار الديمقراطية إرضاءً للغرب وتنفيذاً لرغباته لأن حكامه هم أجراء عند سيدهم الغربي وبخاصة الأمريكي. ولم يدافعوا عن عقيدة المسلمين في وجه الهجمة الفكرية الشرسة التي يتعرض لها المسلمون، بل انقادوا لأوباما في حربه على الإسلام والمسلمين في العراق وسوريا.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس هشام البابا
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير