الجلوة العشائرية ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾
بدأت عشرات الأسر من إحدى العائلات في محافظة الكرك، حياة المعاناة مع بدء تطبيق الجلوة العشائرية التي فرضت عليها إثر وفاة شابين من نفس العشيرة ومن عشيرة أخرى أثناء مشاجرة جماعية وقعت في بلدة فقوع بلواء فقوع عشية عيد الأضحى.
وقامت كوادر من أجهزة الشرطة والدرك بنقل أقارب المتهمين بالقتل من الدرجة الخامسة إلى محافظتي مادبا والطفيلة، خوفا من عمليات ثأر عشائرية وتطبيقا للجلوة العشائرية.
وغادر المئات من الأفراد الذين تم إجلاؤهم من مناطق سكناهم حرصا على حياتهم بعد إجراء عطوة عشائرية برعاية الأجهزة الرسمية، لتبدأ رحلة المعاناة التي ستستمر لحين إجراء صلح عشائري ربما يطول انتظاره لسنوات لحين هدوء الخواطر كما هو الحال في كل حالات الجلوة العشائرية.
ويتطلب تطبيق الجلوة العشائرية هجر المنازل وانتقال طلبة المدارس والجامعات لمدارس وجامعات أخرى والموظفين الرسميين لدوائر أخرى وترك المزارعين أراضيهم ومواشيهم، ما يفرض عليهم حياة صعبة في مواقع تواجدهم.
وقال محافظ الكرك عبد الكريم الرواجفة إن الأجهزة الرسمية أجلت عشرات الأسر من أقارب المتهمين بالقتل من مناطق سكناهم إلى محافظتي مادبا والطفيلة تطبيقا للجلوة العشائرية.
وبين أن الأجهزة الرسمية والوجهاء بالمحافظة يعملون بشكل دائم من أجل الوصول إلى حل للمشكلة التي وقعت.
وأكد أحد المواطنين من الذين تم إجلاؤهم عن بلدة فقوع أن ما يجري من جلوة لجميع المواطنين من أقارب المتهمين أمر صعب للغاية، داعيا إلى إيجاد حل للمشكلة بشكل سريع حرصا على عدم تشتيت العائلات والأسر.
إن الجلوة في حقيقتها هي عقوبة لبريء لم يرتكب ذنبا سوى أنه قريب للجاني، هذه إحدى النتائج الظالمة للقانون العشائري المطبق في الأردن، حيث يتحول كثير من العائلات بين ليلة وضحاها من أعزاء إلى أذلاء ومن أغنياء إلى فقراء ومن آمنين إلى خائفين يتوقعون الموت من كل حدب وصوب، ورغم أن الكثير من الناس يرفضون القانون العشائري إلا أنهم لم يستطيعوا إلغاءه أو التخفيف من آثاره… مما يدل على وجود أناس ينتفعون منه.
فكثيرا ما يتم الاستيلاء على ممتلكات المجليين أو بيع ممتلكاتهم بثمن زهيد، وقسم كبير من الدية التي يتم الاتفاق عليها لدفعها إلى أهالي المجني عليه بدلا من القصاص يذهب إلى رجال الجاهة الذين يتوسطون للحل، وهناك القضاة العشائريون الذين يرتزقون من البت في هذه القضايا.
إن القوانين العشائرية الجائرة تدل على أن القوانين التي تنظم حياة الناس لا يجوز أن يضعها الناس، فقوانين العشائر هي قوانين بشرية قاصرة لا تحل مشاكل الناس كلها في كافة الأزمنة، فهي قوانين آنية وتخدم فئة معينة من الناس ولا تخدم كل الناس، وينطبق ذلك على قوانين الدولة العصرية؛ فكلها قوانين بشرية الصنع صنعها إنسان عاجز ناقص محتاج يراعي مصالحه قبل مصالح غيره ويراعي عصره ومكان عيشه.
لذلك لا بد أن يضع القوانين التي تعالج مشاكل الناس وتنظم علاقاتهم ربُّ الناس الذي خلقهم وهو الأدرى بما يصلح لهم، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم استطاع القضاء على عادة الثأر وجريمة القتل عندما أصبح حاكما لبلد فيه من الثارات والدماء الشيء الكثير، فقد سبق هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معركة بعاث التي قتل فيها من أبناء الأوس والخزرج الكثير، فكيف استطاع حل المشكلة، وكيف قضى على عادة الثأر عندهم؟
بكل بساطة دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بمعنى أن المرجعية للقوانين والأنظمة هي الكتاب والسنة، وليست العادات والتقاليد، ولا الأهواء والشهوات، وليست قوانين الروم وفارس، بل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولم يترك الأمر هكذا بلا تحديد، بل كتب كتابا بين الأوس والخزرج والمهاجرين واليهود والمشركين (جميع سكان المدينة) بيّن فيه أن عقوبة القتل العمد هي القصاص، وأن على ولي القاتل أن يسلم القاتل إلى رسول الله ليقيم عليه القود أي القصاص حتى لو كان ابنه، ولكنه في الوقت نفسه أجاز لولي المقتول أن يعفو عن القاتل ويقبل بالدية.
إن تمكين ولي المقتول من القاتل يشفي غليله أو يحرك عاطفته فيصفح ويعفو، فلا تبقى مشاعر الانتقام وأخذ الثأر في النفوس خاصة عندما يرى أن ولي القاتل هو الذي قام بتسليم ابنه، وفي ذلك جبر للخواطر وتخفيف لفورة الدم.
كما أن الأحكام الشرعية حثت ولي الدم، أي أهل المقتول أن لا يعتدوا في أخذ حقهم، فلهم القصاص أو الدية ولا شيء آخر، فلا ترحّل الناس من أماكن سكناهم خوفا من عمليات الانتقام، ولا يفرض عليهم اللجوء بما فيه من ذلة وفقر وخوف.
وأمر آخر كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أنه حدد من يدفع الدية، فقد بين أن أقارب القاتل حتى الجد السابع يشتركون في دفع الدية وهذا ما كان معروفا عند العرب، فأقرهم على ذلك، وفي دفع الفدية للأسير حتى يخرج من أسره، وفي ذلك من التكاتف الاجتماعي ما فيه، ومن بقاء التلاحم العشائري بحيث يكون للعشيرة تأثير كبير على تعديل سلوك الأفراد، وتقليل حدوث الجريمة.
وهناك فرق بين القتل العمد والقتل الخطأ؛
فالقتل العمد يجب فيه القصاص أو الدية أو العفو، والدية تكون في مال القاتل فقط، ولا تكون على العاقلة أو العشيرة، وتدفع مرة واحدة ولا تؤجل.
قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ وَهِيَ ثَلاَثُونَ حِقَّةً وَثَلاَثُونَ جَذَعَةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ».
أما القتل الخطأ فتجب فيه الدية أو العفو فقط، ولا يجب القصاص فيه، وتكون الدية في مال العاقلة أي العشيرة، وتؤجل في ثلاث سنوات.
هذا هو حكم الإسلام في جرائم القتل، ولذلك لما طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم قوانين الشريعة اختفت ظاهرة أخذ الثأر التي اشتهر بها العرب، وانخفضت نسبة القتل كثيرا.
أما في زماننا هذا وبسبب بعدنا عن تشريع الله فقد عانى الناس من القوانين الجائرة، المجرم والبريء على حد سواء، وازداد القتل زيادة كبيرة، ولم تعد العشيرة هي الحاضنة والمعدلة للسلوك ففقدت دورها الإيجابي وبقي دورها السلبي فقط المخالف لأمر الله.
وصدق الله القائل: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾.
إن حل مشكلة الجلوة لا يكون إلا بالعودة إلى تطبيق أحكام الشريعة.
فإلى العمل إلى إقامة حكم الله في الأرض… إلى إقامة العدل وهذا لا يكون إلا بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة… فاعملوا معنا إنا عاملون.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نجاح السباتين