مع الحديث الشريف اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى!! كما ونسألك اللهم الصبر!!
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم “مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ” وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى الإِمَامُ أحمَدُ فِي مُسنَدِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَسَأَلُوهُ، فَأَعْطَاهُمْ، قَالَ: فَجَعَلَ لاَ يَسْأَلُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلاَّ أَعْطَاهُ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَنْفَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِيَدِهِ: «وَمَا يَكُونُ عِنْدَنَا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ».
وَفِي صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ أَهْلَهُ شَكَوْا إِلَيْهِ الْحَاجَةَ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَسْأَلَهُ لَهُمْ شَيْئًا، فَوَافَقَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَقُولُ: «أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَغْنُوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا رُزِقَ عَبْدٌ شَيْئًا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ، وَلَئِنْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ أَنْ تَسْأَلُونِي لَأُعْطِيَنَّكُمْ مَا وَجَدْتُ».
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ سَمْحًا كَرِيمًا, يُعطِي عَطَاءَ مَنْ لا يَخشَى الفَقْرَ, وَكَانَ يَقُولُ لِبِلالٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: «انفِقْ بِلالا, وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي العَرشِ إِقلالا»!! وَقَد جَاءَهُ نَاسٌ مِنَ الأنصَارِ فَسَألُوهُ أنْ يُعطِيَهُمْ مِمَّا عِندَهُ فَأَعْطَاهُمْ, حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ.
قَولُهُ فِي مُسنَدِ أحمَدَ: “نَفِدَ” بِكَسرِ الفَاءِ وَ (بِالدَّالِ غَيرِ المُعجَمَةِ) مِنَ النَّفَادِ وَهُوَ الانتِهَاءُ حَتَّى لا يَبقَى مِنهُ شَيءٌ, يَختَلِفُ عَمَّا وَرَدَ خَطَأ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ وَغَيرِهِ “نَفَذَ” بِفَتحِ الفَاءِ وَ (بِالدَّالِ المُعجَمَةِ أي المَنقُوطَةِ) وَهُوَ مِنَ النُّفُوذِ أي المُرُورُ وَالاختِرَاقُ, وَمِنهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ). (الرحمن 33)
وَقَولُهُ فِي مُسنَدِ أحمَدَ: “مَا يَكُونُ” جَاءَ بِصِيغَةٍ أُخْرَى فِي صَحِيحِ ابنِ حِبَّانَ وَهِيَ قَولُهُ: “مَا يَكُنْ” بِحَذْفِ حَرْفِ الوَاوِ, وَعَلَيهَا عَلامَةُ الصِّحَّةِ. قَالَ الحَافِظُ فِي “الفَتْحِ” فِي شَرحِ “مَا يَكُونُ”: مَا مَوصُولَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعنَى الشَّرطِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَوَّبَهَا الدِّميَاطِيُّ: “مَا يَكُنْ” وَ”مَا” حِينَئِذٍ شَرطِيَّةٌ، وَلَيسَتِ الأُولَى خَطأ. وَقَولُهُ: “فلن نَدَّخِرَهُ عَنكُمْ” قَالَ الحَافِظُ فِي “الفتح”: أدَّخِرَهُ عَنكُمْ أيْ: أَحبِسُهُ وَأُخَبِّؤُهُ، وَأمنَعُكُمْ إِيَّاهُ مُنفَرِدًا بِهِ عَنكُمْ، وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّخَاءِ, وَإِنفَاذِ أمرِ اللهِ، وَفِيهِ الاعتِذَارُ إِلَى السَّائِلِ. وَقَالَ الحَافِظُ فِي “الفَتْحِ”: “وَفِي الحَدِيثِ الحَضُّ عَلَى الاستِغنَاءِ عَنِ النَّاسِ، وَالتَّعَفُّفِ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِالصَّبرِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ، وَانتِظَارِ مَا يَرزُقُهُ اللهُ، وَأنَّ الصَّبرَ أفضَلُ مَا يُعطَاهُ المَرءُ لِكَونِ الجَزَاءِ عَلَيهِ غَيرَ مُقَدَّرٍ وَلا مَحدُودٍ”.
1. قَولُهُ: «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ».
مَعنَى “يَسْتَعْفِفْ” أي يَطلُبُ العَفَافَ. وَ”العَفَافُ وَالعِفَّةُ” هُمَا التنَزُّهُ عَمَّا لا يُبَاحُ وَالكَفُّ عَنهُ. رَوَى الإِمَامُ أحمَدُ فِي مُسنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى».
2. وَقَولُهُ: «وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ».
مَعنَى “يَسْتَغْنِ” أي يَطلُبُ الغِنَى. وَ”الغِنَى” هُنَا غِنَى النَّفْسِ وَالاستِغنَاءُ عَنِ النَّاسِ وَعَمَّا فِي أيدِيهِمْ. فَالمُؤمِنُ الحَقُّ إِذَا أرَادَ أنْ يَسأَلَ حَاجَةً مِنْ حَوائِجِ الدُّنيَا, أو يَستَعِينَ عَلَى قَضَائِهَا؛ فَإِنَّهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى امتثالاً لِمَا يُرَدِّدُهُ المُؤمِنُ فِي صَلاةِ الفَرضِ وَحْدَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً كُلَّ يَومٍ وَلَيلَةٍ, حِينَ يَقرَأُ فَاتِحَةَ الكِتَابِ فَيَقُولُ: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). وَامتِثَالاً لِقَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: «يَا غُلَامُ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ». فَهُوَ سُبحَانَهُ المُعطِي, وَهُوَ جَلَّ وَعَلا المُعِينُ. وَالمُؤمِنُ الحَقُّ يَستَغنِي عَنِ النَّاسِ وَيَتَعَفَّفُ عَنْ سُؤَالِهِمْ. رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي المُعجَمِ الكَبِيرِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمِلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي النَّاسُ، قَالَ: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ».
3. وَقَولُهُ: «وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ».
الصَّبرُ مِفتَاحُ الفَرَجِ كَمَا يَقُولُونَ, وَالصَّبْرُ نَقِيضُ الجَزَع، وَأَصْلُ الصَّبْر الحَبْسُ, وَكُلُّ مَنْ حَبَسَ شَيئًا فَقَدْ صَبَّرَهُ، وَالصَّبرُ: حَبسُ النَّفسِ عَنِ الجَزَعِ. وَالصَّبرُ: حَبسُ النَّفسِ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَحبْسُهَا عَلَى فَرَائِضِهِ، وَحَبسُهَا عَنِ التَّسَخُّطِ والشِّكَايَةِ, وَقِيلَ: هُوَ تَركُ الشَّكْوَى مِنْ أَلَمِ البَلْوَى لِغَيرِ اللهِ لا إِلَى اللهِ. وَقِيلَ الصَّبرُ: حَبسُ النَّفسِ عَلَى مَا يَقتَضِيهِ العَقلُ وَالشَّرعُ، أو عَمَّا يَقتَضِيَانِ حَبْسَهَا عَنهُ. وَمِنهُ الصَّبرُ عَلَى الجُوعِ وَالعَطَشِ أثنَاءَ الصِّيَامِ, وَالصَّبرُ عَلَى أَلَمِ الإِصَابَاتِ وَالجُرُوحِ أثناءَ الجِهَادِ.
4. قَولُهُ: «وَلَنْ تُعْطَوْا عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ».
الصَّبرُ مِنْ عَزمِ الأُمُورِ, وَجَزَاؤُهُ غَيرُ مُقَدَّرٍ وَلا مَحدُودٍ. قَالَ تَعَالَى: (وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (آل عمران 186) وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِحِسَابٍ). (الزمر 10) وَيَكفِي الصَّابِرِينَ فَخْرًا أنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ مَعَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ). (البقرة 153) جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الصَّابِرِينَ!
أحبتنا الكرام: مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن – 13/9/2014م