نداءات القرآن الكريم عناصر الإيمان التي يؤمن بها الذين آمنوا ج2
(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفربالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا). (النساء 136)
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نتابع وإياكم النداء السادس والعشـرين من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, نتناول فيه الآية الكريمة السادسة والثلاثين بعد المائة من سورة النساء التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفربالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخرفقد ضل ضلالا بعيدا).
نقول وبالله التوفيق:
أيها المؤمنون:
يسترسل صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة فيقول: “وإذا لم تتجرد النفس لله، لم تتحرز أبدا من ضغط القيم والأوضاع، والضرورات والمصالح، والحرص والشح. ولم ترتفع أبدا على المصالح والمغانم، والمطامع والمطامح. ولم تستشعر أبدا تلك الطلاقة والكرامة والاستعلاء التي يحسها القلب المملوء بالله، أمام القيم والأوضاع، وأمام الأشخاص والأحداث، وأمام القوى الأرضية والسلطان وأصحاب السلطان .. ومن هنا تبذر بذرة النفاق .. وما النفاق في حقيقته إلا الضعف عن الإصرار على الحق في مواجهة الباطل. وهذا الضعف هو ثمرة الخوف والطمع، وتعليقهما بغير الله وثمرة التقيد بملابسات الأرض ومواضعات الناس، في عزلة عن منهج الله للحياة.
أيها المؤمنون:
فهناك مناسبة في السياق بين الحديث عن الإيمان بالله، والتجرد في القيام بالشهادة له، وبين الحديث عن النفاق- إلى جانب المناسبة العامة، التي يكونها موضوع السورة الأصيل، وهو تربية الجماعة المسلمة بمنهج الإسلام ومعالجة الرواسب الباقية من الجاهلية وتعبئة النفوس كذلك ضد الضعف البشري الفطري .. ثم خوض المعركة- بهذه الجماعة- مع المشركين من حواليها، ومع المنافقين فيها.. بعد تلك الصورة التي رسمتها الآية السابقة لطائفة من المنافقين آمنوا ثم كفروا, ثم آمنوا ثم كفروا, ثم ازدادوا كفرا .. ومن هنا تبدأ الحملة التي سبقت الإشارة إليها على النفاق والمنافقين بشتى أساليبها الجديرة بالدراسة والتأمل، لمعرفة طبيعة المنهج وهو يزاول العمل على الطبيعة وفي واقع الحياة والقلوب! (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)… تبدأ الحملة بهذا التهكم الواضح في استعمال كلمة “بشر” مكان كلمة “أنذر”. وفي جعل العذاب الأليم الذي ينتظر المنافقين بشارة! ثم ببيان سبب هذا العذاب الأليم، وهو ولايتهم للكافرين دون المؤمنين وسوء ظنهم بالله وسوء تصورهم لمصدر العزة والقوة. يقول الله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين. أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا) .. والكافرون المذكورون هنا هم- على الأرجح- اليهود الذين كان المنافقون يأوون إليهم ويتخنسون عندهم، ويبيتون معهم للجماعة المسلمة شتى المكائد.
والله-جل جلاله- يسأل في استنكار: لم يتخذون الكافرين أولياء وهم يزعمون الإيمان؟ لم يضعون أنفسهم هذا الموضع، ويتخذون لأنفسهم هذا الموقف؟ أهم يطلبون العزة والقوة عند الكافرين؟ لقد استأثر الله- عز وجل- بالعزة فلا يجدها إلا من يتولاه ويطلبها عنده ويرتكن إلى حماه. وهكذا تكشف اللمسة الأولى عن طبيعة المنافقين، وصفتهم الأولى، وهي ولاية الكافرين دون المؤمنين، كما تكشف عن سوء تصورهم لحقيقة القوى وعن تجرد الكافرين من العزة والقوة التي يطلبها عندهم أولئك المنافقون. وتقرر أن العزة لله وحده فهي تطلب عنده وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين! ألا إنه لسند واحد للنفس البشرية تجد عنده العزة، فإن ارتكنت إليه استعلت على من دونه. وألا إنها لعبودية واحدة ترفع النفس البشرية وتحررها .. العبودية لله .. فإن لم تطمئن إليها النفس استعبدت لقيم شتى, وأشخاص شتى, واعتبارات شتى، ومخاوف شتى. ولم يعصمها شيء من العبودية لكل أحد, ولكل شيء, ولكل اعتبار .. وإنه إما عبودية لله, كلها استعلاء وعزة وانطلاق. وإما عبودية لعباد الله كلها استخذاء وذلة وأغلال .. ولمن شاء أن يختار .. وما يستعز المؤمن بغير الله وهو مؤمن. وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله وهو يؤمن بالله. وما أحوج ناسا ممن يدعون الإسلام ويتسمون بأسماء المسلمين، وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض، أن يتدبروا هذا القرآن .. إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين .. وإلا فإن الله غني عن العالمين! ومما يلحق بطلب العزة عند الكفار وولايتهم من دون المؤمنين: الاعتزاز بالآباء والأجداد الذين ماتوا على الكفر واعتبار أن بينهم وبين الجيل المسلم نسبا وقرابة! كما يعتز ناس بالفراعنة والآشوريين والفينيقيين والبابليين وعرب الجاهلية اعتزازا جاهليا، وحمية جاهلية .. روى الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا أبو بكر بن عباس. عن حميد الكندي عن عبادة ابن نسي، عن أبي ريحانة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من انتسب إلى تسعة آباء كفار، يريد بهم عزا وفخرا، فهو عاشرهم في النار”… ذلك أن آصرة التجمع في الإسلام هي العقيدة. وأن الأمة في الإسلام هي المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ في كل أرض، وفي كل جيل. وليست الأمة مجموعة الأجيال من القدم، ولا المتجمعين في حيز من الأرض في جيل من الأجيال. وأولى مراتب النفاق أن يجلس المؤمن مجلسا يسمع فيه آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، فيسكت ويتغاضى .. يسمي ذلك تسامحا، أو يسميه دهاء، أو يسميه سعة صدر وأفق وإيمانا بحرية الرأي!!! وهي هي الهزيمة الداخلية تدب في أوصاله, وهو يموه على نفسه في أول الطريق، حياء منه أن تأخذه نفسه متلبسا بالضعف والهوان! إن الحمية لله، ولدين الله، ولآيات الله. هي آية الإيمان. وما تفتر هذه الحمية إلا وينهار بعدها كل سد, وينزاح بعدها كل حاجز، وينجرف الحطام الواهي عند دفعة التيار. وإن الحمية لتكبت في أول الأمر عمدا. ثم تهمد. ثم تخمد. ثم تموت!
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, وشفاء صدورنا, ونور أبصارنا, وجلاء أحزاننا, وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم ذكرنا منه ما نسينا, وعلمنا منه ما جهلنا, وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار, على الوجه الذي يرضيك عنا, واجعله اللهم حجة لنا لا علينا.. آمين آمين آمين برحمتك يا أرحم الراحمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي