مع الحديث الشريف سفينة النجاة في المجتمع المسلم
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم “مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ” وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا قَالَ: سَمِعْتُ عَامِرًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ, وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ, فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا, وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا, فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ, مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ, فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا, وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا, فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا, هَلَكُوا جَمِيعًا, وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ, نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا».
بَادِئَ ذِي بِدءٍ نُقَدِّمُ إِلَيكُمْ شَرحًا مُوجَزًا نُوَضِّحُ فِيهِ مَعَانِي بَعضَ التَّرَاكِيبِ الوَارِدَةِ فِي الحَدِيثِ ثُمَّ نُقَدِّمُ إِلَيكُمُ الشَّرْحَ الإِجمَالِيَّ: “القَائِمُ فِي حُدُودِ اللهِ”: حُدُودُ اللهِ هِيَ المُحَرَّمَاتُ التِي نَهَى اللهُ عِبَادَهُ عَنْ تَعَدِّيهَا بِقَولِهِ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). (البقرة 229) وَالقَائِمُ عَلَى تِلْكَ الحُدُودِ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِالإِنكَارِ عَلَى مَنْ يَتَعَدَّاهَا مُرتَكِبًا مَا حَرَّمَ اللهُ. وَالوَاقِعُ فِيهَا: المُرتَكِبُ لَهَا, وَهُوَ عَكْسُ الأوَّلِ القَائِمِ عَلَيهَا, المُنكِرِ عَلَى مَنْ يَرتَكِبُهَا. استَهَمُوا: أي اقتَرَعُوا عَلَيهَا, فَأخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنهُمْ سَهْمًا مِنهَا بَعدَ إِجرَاءِ القُرعَةِ. خَرَقْنَا: أحدَثنَا ثُقبًا. إِنْ يَترُكُوهُمْ وَمَا أرَادُوا: أي إِنْ يَترُكُوهُمْ يَفعَلُونَ مَا يُرِيدُونَ مِنْ غَيرِ أنْ يَمنَعُوهُمْ. أخَذُوا عَلَى أيدِيهِمْ: أي مَنَعُوهُمْ.
وَإِلَيكُمُ الشَّرْحَ الإِجمَالِيَّ لِلحَدِيثِ, نَقُولُ وَبِاللهِ التَّوفِيقُ: لا تُوجَدُ فِي الإِسلامِ حُرِّياتٌ مُطلَقَةٌ كَمَا فِي النِّظَامِ الرَّأسمَالِيِّ, وَإِنَّمَا تُوجَدُ فِيهِ حُرِّيةٌ ضِمْنَ الحُدُودِ الشَّرعِيَّةِ, فَالمُسلِمُ مُقَيَّدٌ فِي كُلِّ أقوَالِهِ وَأفعَالِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ وَأفكَارِهِ وَمُعتَقَدَاتِهِ بِأحكَامِ الإِسلامِ, وَتَوضِيحًا لِهَذِهِ الفِكرَةِ عَمِدَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ إِلَى ضَرْبِ المَثَلِ بِاعتِبَارِهِ الوَسِيلَةَ الصَّالِحَةَ لِكَشْفِ الحَقَائِقِ. وَانطَوَى هَذَا المَثَلُ عَلَى نَمُوذَجَينِ يَعرِفُهُمَا النَّاسُ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ: النَّمُوذَجُ الأوَّلُ: نَمُوذَجُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ, الَّذِي يُنكِرُ تَعَدِّيهَا وَمُجَاوَزَتَهَا. وَالنَّمُوذَجُ الثَّانِي: نَمُوذَجُ الوَاقِعِ فِيهَا الَّذِي مَا يَفتأُ يَرتَكِبُهَا وَيَغشَاهَا. وَصِيغَةُ الحَدِيثِ هَذِهِ هِيَ الصِّيغَةُ الصَّحِيحَةُ المُنَاسِبَةُ لِلسِّياقِ؛ لأنَّهَا تَجعَلُ “القَائِمَ عَلَى حُدُودِ اللهِ” مُقَابِلَ “الوَاقِعِ فِيهَا”. وَيَقُولُ الدُّكتُور صُبحِي الصَّالِح رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ هَذَا الحَدِيثِ: لَكِنْ مِنَ الطَّرِيفِ أنَّ لِلبُخَارِيِّ مِنْ صَحِيحِهِ نَفسِهِ صِيغَةٌ لا تَتَلاءَمُ وَسِيَاقَ الحَدِيثِ وَنَصُّهَا: «مَثَلُ المُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللهِ» أي المُرَائِي الَّذِي يُضَيِّعُ الحُقُوقَ وَلا يُغَيِّرُ المُنكَرَ, وَقَد صَرَّحَ الحَافِظُ بنُ حَجَرٍ فِي فَتحِ البَارِي بِأنَّ هَذَا وَهْمٌ وَقَعَ فِيهِ الرَّاوِي؛ لأنَّ “المُدْهِنَ فِي الحُدُودِ” يَلتَبِسُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَعَ “الوَاقِعِ فِيهَا”. وَبَدَلا مِنْ أنْ يَكُونَ فِي الحَدِيثِ نَمُوذَجَانِ كَمَا تُوحِي بِذَلِكَ عِبَارَةُ الرَّسُولِ, تَحْصُرُ هَذِهِ الصِّيغَةُ الخَاطِئَةُ التَّمثِيلَ النَّبوِيَّ فِي نَمُوذَجٍ وَاحِدٍ, وَسُبحَانَ مَنْ لا يَضِلُّ وَلا يَنسَى! وَحَقِيقَةُ المَثَلِ بِنَمُوذَجَيهِ كِلَيهِمَا تَتَلَخَّصُ فِي أنَّ قَومًا اقتَرَعُوا عَلَى سَفِينَةٍ ذَاتِ طَابَقَينِ: عُلْوِيٍّ وَسُفْلِيٍّ, فَكَانَتْ نَتِيجَةُ القُرعَةِ أنَّ بَعضَهُمْ أَصَابَ الطَّابِقَ العُلْوِيَّ, وَأنَّ بَعضَهُمُ الآخَرَ كَانَ نَصِيبَهُ الطَّابَقُ السُّفلِيُّ, وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلَّذِينَ فِي أسفَلِ السَّفِينَةِ مِنْ أنْ يَستَقُوا المَاءَ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيهِ, فَكَانُوا يَزعِجُونَ مَنْ فَوقَهُمْ كُلَّمَا مَرُّوا عَلَيهِمْ, فَخُيِّلَ إِلَيهِمْ أنَّ فِي وُسعِهِمُ الوُصُولَ إِلَى المَاءِ بِإِحدَاثِ ثُقْبٍ فِي طَابِقِهِمُ السُّفلِيِّ, وَبِذَلِكَ يَتَجَنَّبُونَ إِزعَاجَ إِخوَانِهِمْ فِي أعلَى السَّفِينَةِ!! وَتَوَهَّمُوا أنَّ لَهُمْ أنْ يَفعَلُوا هَذَا لأنَّهُمْ أحرَارٌ فِي طَابِقِهِمْ, وَلَكِنْ فَاتَهُم أنَّ حُرِّيتَهُمْ مُرتَبِطَةٌ بِحُرِّيةِ إِخوَانِهِم, وَأنَّ مُجَرَّدَ خَرقِهِمْ نَصِيبَهُمُ السُّفلِيَّ سَيُودِي بِهِمْ أجمَعِينَ حِينَ يَدخُلُ المَاءُ مِنَ الثَّقبِ, ثُمَّ يَتَسَرَّبُ إِلَى أعلاهَا بَعدَ أسفَلِهَا, فَيُغرِقُهَا, وَيُهلِكُ كُلَّ مَن فِيهَا!! وَعَلَى هَذَا يَكُونُ سُكُوتُ الَّذِينَ فِي الطَّابِقِ العُلوِيِّ هُوَ السَّبَبُ المُبَاشَرُ في الغَرَقِ وَالهَلاكِ. أمَّا إِذَا مَنَعُوا الَّذِينَ في أسفَلِ السَّفِينَةِ مِنْ ثَقبِهَا وَخَرقِهَا فَإنَّهَا تَظَلُّ تَجرِي بِاسمِ اللهِ مجرَاهَا وَمُرسَاهَا, وَتَتَحَقَّقُ النَّجَاةُ لَهُمْ جَمِيعًا. وَقَد شَبَّهَ الرَّسُولُ الكَرِيمُ القَائِمِينَ عَلَى حُدُودِ اللهِ, المُنكِرِينَ عَلَى مَنْ يَتَعَدَّاهَا بِرُكَّابِ الطَّابِقِ العُلْوِيِّ, الَّذِينَ بِإِنكَارِهِمْ هَذَا تَنجُو السَّفِينَةُ وَيَنجُو جَمِيعُ مَنْ فِيهَا. وَشَبَّهَ الوَاقِعِينَ فِي حُدُودِ اللهِ المُقتَرِفِينَ لِلآثَامِ بِرُكَّابِ الطَّابِقِ السُّفلِيِّ, الَّذِينَ بِخَرْقِهِمْ نَصِيبَهُمْ فِيهَا يُسبِّبُونَ غَلَبةَ المَاءِ عَلَيهَا ثُم غَرَقَهَا وَغَرَقَ رُكَّابِهَا أجمَعِينَ!! وَالبَاحِثُ يُوشِكُ أنْ يَستَنتِجَ مِنْ ذِكْرِ سَفِينَةٍ ذَاتِ طَابِقَينِ أنَّ المِلاحَةَ فِي المَنَاطِقِ البَحرِيَّةِ بِشِبْهِ الجَزِيرَةِ كَانَتْ رَاقِيةً, إِلاَّ أنْ يَكُونَ هَذَا التَّمثِيلُ مِنْ قَبِيلِ الخَيَالِ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّنا أنَّ الرَّسُولَ الكَرِيمَ مَا رَأى سُفُنًا ذَاتَ طَابِقَينِ, أو مَا رَأى قَطُّ سُفُنًا, وَلا شَاهَدَ سَاحِلاً وَلا بَحْرًا. وَمَعَ أنَّهُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيهِ عَرَضَ فِي حَدِيثِهِ القَصِيرِ هَذَا فِكْرَةَ الحُرِّيةِ وَحَدَّدَ مُنطَلَقَهَا وَمُنتَهَاهَا, وَرَسَمَ آفَاقَهَا وَأبعَادَهَا, نُلاحِظُ البَسَاطَةَ فِي اختِيَارِ ألفَاظِهِ, وَالتَّمَاسُكَ فِي تَدَاخُلِ تَرَاكِيبِهِ وَصُوَرِهِ, بِالرَّغْمِ مِنْ عُمْقِ الفِكرَةِ المَطرُوحَةِ التِي يَدُورُ حَولَهَا مِحْوَرُ الحَدِيثِ, كَيفَ لا وَهُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ عَنْ نَفسِهِ: «أنَا أفْصَحُ العَرَبِ بَيدَ أنَّي مِنْ قُرَيشٍ»؟
احبتنا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن