مع الحديث الشريف كنت لك كأبي زرع لأم زرع ح1
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم “مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ” وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً: فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا. قَالَتْ الأْولَى: «زَوْجِي لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ، لاَ سَهْلٍ فَيُرْتَقَى، وَلاَ سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ». لَحْمُ جَمَلٍ غَثٍّ: الغَثُّ: لَيسَ بِالسَّمِينِ, وَقَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ: لَحْمُ جَمَلٍ غثٍّ أي هَزِيلٍ. وَالمَعنَى أنَّهَا تَصِفُ بُخلَهُ وَقِلَّةَ خَيرِهِ وَبُعدُ نَوَالِهِ، كَأنَّهُ فِي رَأسِ جَبَلٍ وَعْرٍ صَعْبٍ لا يُنَالُ إِلاَّ بِالمَشَقَّةِ. وَتَمثِيلُهَا لَهُ بِوُعُورَةِ الجَبَلِ إِشَارَةٌ إِلَى سُوءِ خُلُقِهِ وَالذَّهَابِ بِنَفسِهِ تِيهًا وَكِبْرًا, فَجَمَعَ إِلَى مَنعِ الرِّفْدِ الأذَى وَسُوءَ الخُلُقِ. وَلا سَمِينٍ فَيُنْتَقَلُ: المُرَادُ أنَّهُ لَيسَ بِسَمِينٍ فَيَنتَقِلُهُ النَّاسُ إِلَى بُيُوتِهِمْ, فَيَأكُلُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَزهَدُونَ فِيهِ.
قَالَتْ الثَّانِيَةُ: «زَوْجِي لاَ أَبُثُّ خَبَرَهُ، إِنِّي أَخَافُ أَنْ لاَ أَذَرَهُ، إِنْ أَذْكُرْهُ أَذْكُرْ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ». عُجَرَهُ وبُجَرَه: (بِضَمِّ العَينِ فِي الكَلِمَةِ الأُولَى وَالبَاءِ فِي الكَلِمَةِ الثَّانِيَةِ وَفَتْحِ الجِيمِ فِيهِمَا). عُجَرَهُ: لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى تَعَقُّدٍ فِي الشَّيءِ وَنُتُوٍّ مَعَ التِوَاءٍ. وَالبُجَر هُوَ تَعَقُّدُ الشَّيءِ وَتَجَمُّعُهُ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي تَخرُجُ سُرَّتُهُ وَتَتَجَمَّعُ عِندَهَا العُرُوقُ.
الأبْجَرُ: قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ: أصْلُهُ العُرُوقُ المُنعَقِدَةُ فِي البَطْنِ خَاصَّةً، والعُجَر فِي الظَّهرِ وَسَائِرِ الجَسَدِ، وَقِيلَ: المُرَادُ بِذَلِكَ الهُمُومُ وَالأحْزَانُ، وَقِيلَ: الأسرَارُ. وَقِيلَ: المَعَائِبُ، وَقِيلَ: الدَّوَاهِي. وَالمَعنَى أنَّ زَوجَهَا كَثِيرُ المَعَايِبِ مُتَعَقِّدُ النَّفسِ عَنِ المَكَارِمِ، رَدِيءُ البَاطِنِ، مَستُورُ الظَّاهِرِ، فَاكتَفَتْ بِالإِشَارَةِ إِلَى أنَّ لَهُ مَعَايِبَ وَفَاءً بِمَا التَزَمَتْهُ مِنَ الصِّدْقِ, وَسَكَتَتْ عَنْ تَفسِيرِهَا مَخَافَةَ أنْ يَطُولَ الحَدِيثُ عَنْ خَبَرِهِ فَلا تَقدِرُ عَلَى تَكمِيلِهِ مِنْ سُوئِهِ. أو أنَّهَا تَخْشَى إِنْ ذَكَرَتْ مَا فِيهِ أنْ يَبلُغَهُ فَيُفَارِقُهَا, وَلا تُطِيقُ ذَلِكَ لِعَلاقَتِهَا بِهِ وَأولادِهَا مِنهُ.
قَالَتْ الثَّالِثَةُ: «زَوْجِي الْعَشَنَّقُ, إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ». العَشَنَّق: (بِفَتْحِ المُهمَلَةِ ثُمَّ المُعجَمَةِ, وَتَشدِيدِ النُّونِ المَفتُوحَةِ) الطَّوِيلُ الجِسْمِ، وَهَذَا مِمَّا زِيدَتْ فِيهِ الشِّينُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ العَنَقِ، وَلَيسَ بِبَعِيدٍ أنْ تَكُونَ العَينُ زَائِدَةً أيضًا، فَإِنْ كَانَ كَذَا فَالكَلِمَةُ مَنحُوتَةٌ مِنَ: العَنَقِ والشَّنَقِ. وَقِيلَ: هُوَ المِقدَامُ الشَّرِسُ فِي أُمُورِهِ بِدَلِيلِ بَقِيَّةِ وَصْفِهَا. أو هُوَ الطَّوِيلُ النَّحِيفُ الَّذِي لَيسَ أمْرُهُ إِلَى امْرَأتِهِ وَأمْرُهَا إِلَيهِ، فَهُوَ يَحكُمُ فِيهَا بِمَا يَشَاءُ وَهِيَ تَخَافُهُ. وَقَالَ أبُو عُبَيْدٍ رَحِمَهُ اللهُ: تَقُولُ: لَيسَ عِندَهُ أكثَرَ مِنْ طُولِهِ بِلا نَفْعٍ!، فَإِنْ ذَكَرْتُ مَا فِيهِ مِنَ العُيُوبِ طَلَّقَنِي, وَإنْ سَكَتُّ تَرَكَنِي مُعلَّقَةً لا أيِّمًا وَلا ذَاتِ بَعْلٍ. قَالَ ابنُ الأثِيرِ رَحِمَهُ اللهُ: أرَادَتْ أنَّ لَهُ مَنْظَرًا بِلا مَخْبَرٍ؛ لأنَّ الطُّولَ فِي الغَالِبِ دَلِيلُ السَّفَهِ. قَالَ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: الَّذِي يَظهَرُ لِي أنَّهَا أرَادَتْ وَصْفَ سُوءِ حَالِهَا عِندَهُ, فَأشَارَتْ إِلَى سُوءِ خُلُقِهِ وَعَدَمِ احتِمَالِهِ لِكَلامِهَا إِنْ شَكَتْ لَهُ حَالَهَا، وَأنَّهَا تَعلَمُ مَتَى ذَكَرَتْ لَهُ شَيئًا مِنْ ذَلِكَ بَادَرَ إِلَى طَلاقِهَا وَهِيَ لا تُؤثِرُ تَطلِيقَهُ لِمَحَبَّتِهَا لَهُ, ثُمَّ عَبَّرَتْ بِالجُملَةِ الثَّانِيَةِ إِشَارَةً إِلَى أنَّهَا إِنْ سَكَتَتْ صَابِرَةً عَلَى تِلْكَ الحَالِ كَانَتْ عِندَهُ كَالمُعَلَّقَةِ الَّتِي لا ذَاتَ زَوْجٍ وَلا أيِّمَ، وَيُحتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَولُهَا أُعَلَّق مُشتَقًا مِنْ عَلاقَةِ الحُبِّ فَلِذَلِكَ تَصبِرُ وَتَسكُتُ.
من فوائد الحديث:
1. فِي الحَدِيثِ الشَّرِيفِ بَيَانُ أثَرِ هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ فِي استِلالِ سَخَائِمِ الجَاهِلِيَّةِ، وَنَبذِ عَادَاتِهَا الذَّمِيمَةِ، فَنَهَى عَنْ دَنِيِّ الأخلاقِ مِنْ فُحْشٍ فِي القَولِ، وَالفِعْلِ؛ كَازدِرَاءِ المَرأةِ وَسُوءِ عِشرَتِهَا وَالتَّعَدِّي عَلَيهَا بِالظُّلْمِ، وَالبُخْلِ وَالطَّمَعِ، وَالكِبْرِ وَالغِلظَةِ وَالفَظَاظَةِ.
2. وَفِيهِ جَوَازُ الكَلامِ بِالألْفَاظِ الغَرِيبَةِ وَاستِعمَالِ السَّجْعِ فِي الكَلامِ وَفُنُونِ البَلاغَةِ، إِذَا أتَى بِهِ الخَاطِرُ بِغَيرِ تَكَلُّفٍ، وَانقَادَ لَفظُهُ لِمَعنَاهُ مِنْ غَيرِ استِكرَاهٍ وَلا تَنَافُرٍ.
3. وَفِيهِ أنَّ المَرأةَ العَاقِلَةَ اللَّبِيبَةَ الحَكِيمَةَ لا تَغتَرُّ بِإِلْحَاحِ غَيرِهَا فِي افتِضَاحِ أخْلاقِ عَشِيرِهَا وَتَعْيِيرِ زَوجِهَا المُسِيءِ إِلَيهَا، فَلا تَصِفُ عُيُوبَهُ أمَامَ النِّسَاءِ، الَّلاتِي لا يَملِكْنَ حَوْلاً وَلا طَولاً عَلَى الإِصلاحِ، وَرُبَّمَا يَؤُولُ الأمْرُ إِلَى احتِقَارِهَا وَالشَّمَاتَةِ وَالاستِهَانَةِ بِهَا. فَأحْسَنَتِ الَّتِي قَالَتْ: «زَوجِي لا أبُثُّ خَبَرَهُ». وَقَولِ الأُخرَى: «إِنْ أَنْطِقْ أُطَلَّقْ، وَإِنْ أَسْكُتْ أُعَلَّقْ».
4. وَفِيهِ أنَّ مِنْ شَأنِ النِّسَاءِ إِذَا تَحَدَّثْنَ أنْ لا يَكُونَ حَدِيثُهُنَّ غَالِبًا إِلاَّ فِي الرِّجَالِ، وَهَذَا بِخِلافِ الرِّجَالِ فَإِنَّ غَالِبَ حَدِيثِهِمْ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ المَعَاشِ. وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ تَحَدُّثُ كُلُّ جِنْسٍ بِمَا تَنصَرِفُ إِلَيهِ هِمَّتُهُ وَيُفَرِّغُ فِيهِ جُلَّ وَقتِهِ وَجُهدِهِ، فَمَعَاشُ المَرأةِ وَطَبِيعَةُ حَيَاتِهَا مُلازَمةُ بَيتِهَا وَزَوجِهَا وَأولادِهَا وَهِمَّةُ الرَّجُلِ مُعَلَّقَةٌ بِعَمَلِهِ وَكَسبِهِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ.
احبتنا الكرام: نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَلِلحَدِيثِ تَتِمَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن