مع الحديث الشريف – كنت لك كأبي زرع لأم زرع ح3
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم “مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ” وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ:
رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيهِمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا قَالَتْ: جَلَسَ إِحْدَى عَشْرَةَ امْرَأَةً: فَتَعَاهَدْنَ وَتَعَاقَدْنَ أَنْ لاَ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخْبَارِ أَزْوَاجِهِنَّ شَيْئًا. قَالَتْ السَّابِعَةُ: «زَوْجِي غَيَايَاءُ أَوْ عَيَايَاءُ, طَبَاقَاءُ, كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ, شَجَّكِ أَوْ فَلَّكِ, أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ». غَيايَاء أو عَيَايَاء: الغَينُ وَاليَاءُ المُشَدَّدَةُ أصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى إِظلالِ شَيءٍ لِغَيرِهِ. وَالغَيَايَةُ (بِالغَينِ المُعجَمَةِ المَفتُوحَةِ) ظِلُّ السَّحَابَةِ وَالغَبَرَةِ وَنَحوِهَا. كَأنَّهُ فِي غَيَايَة أبدًا، وَظُلْمَةٍ مِنَ الشَّرِّ لا يَهتَدِي إِلَى مَسْلَكٍ يَنفَذُ إِلَيهِ، وَيُمكِنُ أنْ تَكُونَ وَصَفَتْهُ بِثِقَلِ الرُّوحِ كَالظِّلِّ المُتَكَاثِفِ المُظلِمِ الَّذِي لا إِشرَاقَ فِيهِ. قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ: أكثَرُ الرُّوَاةِ يَقُولُونَهَا بِالعَينِ المُهْمَلَةِ بِلا شَكَّ. قَالَ أبُو عُبَيدٍ رَحِمَهُ اللهُ: إِنَّمَا هُوَ عَيَايَاء (بِالعَينِ المُهمَلَةِ المَفتُوحَةِ) وَهُوَ مِنَ الإِبِلِ؛ الَّذِي لا يُضْرَبُ وَلا يُلَقَّحُ. وَفِي الرِّجَالِ العِنِّينُ الَّذِي عَجِزَ عَنْ إِتيَانِ النِّسَاءِ. وَعَيَايَاءُ فِي النَّاسِ الَّذِي لا يَتَّجِهُ لِشَيءٍ وَلا يَتَصَرَّفُ فِي الأُمُورِ. طَبَاقَاءُ: تُقَالُ لِلأحْمَقِ الَّذِي انطَبَقَتْ عَلَيهِ أمُورُهُ فَلا يَهتَدِي لِوِجْهَتِهَا, وَانطَبَقَ عَلَيهِ الكَلامُ فَانغَلَقَ وَأُفْحِمَ،كَأنَّهُ سُتِرَ عَنهُ الشَّيءُ حَتَّى أُطبِقَ، فَصَارَ كَالمُغَطَّى. شَجَّكِ: هُوَ أنْ يَعْلُوَ الرَّأسَ بِالضَّرْبِ فَيَجرَحُهُ أو يَكُونُ فِي الوَجْهِ وَلا يَكُونُ فِي غَيرِهِمَا. فَلَّكِ: هُوَ انكِسَارٌ وَانثِلامٌ أو مَا يُقَارِبُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: ذَهَبَ بِمَالِكِ أو كَسَرَ حُجَّتَكِ وَكَلامَكِ بِكَثرَةِ خُصُومَتِهِ وَعَذْلِهِ, فَمَعنَى قَولِهَا: «كُلُّ دَاءٍ لَهُ دَاءٌ, شَجَّكِ أو فَلَّكِ أَوْ جَمَعَ كُلًّا لَكِ». أنَّ كُلَّ دَاءٍ يَعرِفُهُ النَّاسُ فَهُوَ فِيهِ، أوْ أنَّ كُلَّ دَاءٍ فِي زَوجِهَا بَلَغَ مُنتَهَاهُ، وَأنَّهُ ضَرُوبٌ لامرَأتِهِ، يَشُجُّهَا أو يَهْشِمُ مِنْ عِظَامِهَا أو يَجمَعُ الأمرَينِ لَهَا. وَالحَاصِلُ أنَّهُ مَوصُوفٌ بِالحُمْقِ مَعَ التَّنَاهِي فِي جَمْعِ النَّقَائِصِ بِأنْ يَعجَزَ عَنْ قَضَاءِ وَطَرَهَا مَعَ الأذَى فَإِذَا حَدَّثتْهُ سَبَّهَا وَإِذَا مَازَحَتْهُ شَجَّها، وَإِذَا أغضَبَتْهُ كَسَرَ عُضوًا مِنْ أعضَائِهَا أو أغَارَ عَلَى مَالِهَا أو جَمَعَ كُلَّ ذَلِكَ لَهَا.
قَالَتْ الثَّامِنَةُ: «زَوْجِي الْمَسُّ مَسُّ أَرْنَبٍ, وَالرِّيحُ رِيحُ زَرْنَبٍ». رِيْح زَرْنَب: الزَّرنَبُ ضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ. قِيلَ: هُوَ الزَّعفَرَانِ. قَالَ القَاضِي عِيَاضُ رَحِمَهُ اللهُ: فِيهِ ثَلاثَةُ مَعَانٍ: وَصْفُهُ بِكَثرَةِ استِعْمَالِهِ الطِّيبَ، أو بِطِيبِ رِيحِهِ وَعَرَقِهِ؛ لِكَثرَةِ نَظَافَتِهِ وَلِينِ بَشَرَتِهِ. أو بِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالذِّكْرِ, وَالخُلُقِ وَلِينِ الجَانِبِ. أو بِحُسْنِ العِشْرَةِ وَطِيبِ الحَدِيثِ.
قَالَتْ التَّاسِعَةُ: «زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ, طَوِيلُ النِّجَادِ, عَظِيمُ الرَّمَادِ, قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنْ النَّادِ». النِّجَاد: لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى اعتِلاءٍ وَقُوَّةٍ وَإِشرَافٍ، وَمِنهُ النِّجَادُ؛ حَمَائِلُ السِّيفِ، لأنَّهُ يَعلُو العَاتِقَ. وَقَولُهَا: طَوِيلُ النِّجَادِ: تُرِيدُ طُولَ قَامَتِهِ؛ لأَنَّ مَنْ طَالَتْ قَامَتُهُ طَالَ نَجَادُهُ. النَّادِ: هُوَ النَّادِي بِاليَاءِ السَّاكِنَةِ المَحذُوفَةِ فِي السِّيَاقِ، وَهُوَ مَجْلِسُ القَومِ وَمُجتَمَعُهُمْ وَهُوَ المُنتَدَى أيضًا. وَمَعنَى قُربِهِ مِنَ النَّادِي؛ أنَّهُ شَرِيفٌ كَرِيمٌ يَجعَلُ بَيتَهُ قَرِيبًا مِنَ اجتِمَاعِ النَّاسِ؛ لِيَقْصِدَهُ الضِّيفَانُ، فَلا يَنأى فِي الشِّعَابِ. وَمَعنَى كَلامِهَا: «رَفِيعُ العِمَادِ … » أنَّهُ رَفِيعٌ فِي قَومِهِ وَحَسَبِهِ وَشَرَفِهِ وَسُؤدُدِهِ، وَهُوَ طَوِيلُ القَامَةِ عَظِيمُ الرَّمَادِ كِنَايَةً عَنْ سِعَةِ ثَرَائِهِ وَكَثرَةِ أضيَافِهِ.
قَالَتْ الْعَاشِرَةُ: «زَوْجِي مَالِكٌ. وَمَا مَالِكٌ؟ مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكِ لَهُ إِبِلٌ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ وَإِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ». ومعنى: «كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ قَلِيلاَتُ الْمَسَارِحِ». أنَّهَا مَحْبُوسَةٌ حَاضِرَةٌ أكثَرَ وَقْتِهَا لِلنَّحْرِ لاستِعدَادِهِ لِلضِّيفَانِ، قَلِيلاً مَا تَسْرَحُ وَتَغِيبُ عَنهُ، وَقِيلَ: مَعنَاهُ أنَّهَا تُحْلَبُ مِرَارًا لِلأضيَافِ فَتُقَامُ لِذَلِكَ ثُمَ تُبرَكُ. وَقِيلَ: هِيَ كَثِيرَةٌ فِي مَبَارِكِهَا لِمَنْ يَنتَابُهَا مِنَ الأضيَافِ, قَلِيلَةٌ فِي ذَاتِهَا إِذَا رَعَتْ. وَالمِزْهَرُ العُودُ أو آلَةُ اللَّهْوِ الَّذِي يُضرَبُ بِهِ، وَالمَعنَى أنَّ زَوجَهَا قَدْ عَوَّدَ إِبِلَهُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الأضيَافُ أنْ يَنحَرَ لَهُمْ, وَيَسقِيَهُمْ, فَإِذَا سَمِعَتِ الإِبِلُ صَوتَ العُودِ عَلِمْنَ أنَّهُنَّ مَنحُورَاتٍ. وَقِيلَ: المُزْهِرُ “بِضَمِّ المِيمِ وَكَسْرِ الهَاءِ” هُوَ الَّذِي يَزُهِرُ النَّارَ لِلأضيَافِ, فَإِذَا سَمِعْنَ صَوتَ ذَلِكَ وَمَعْمَعَانِ النَّارِ أيقَنَتْ بِالعَقْرِ. وَالصَّوَابُ هُوَ المَعنَى الأوَّلُ.
من فوائد الحديث:
1. فِي الحَدِيثِ حُسْنُ عِشْرَةِ المَرْءِ أهْلَهُ بِالتَّأنِيسِ وَالمُحَادَثَةِ بِالأمُوُرِ المُبَاحَةِ مَا لَمْ يُفْضِ ذَلِكَ إِلَى الإثْمِ، وَفِيهِ المِزَاحُ أحْيَانًا وَسُرُورُ النَّفْسِ بِهِ، وَمُدَاعَبَةُ الرَّجُلِ أهْلَهُ وَإِعلامُهُ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ، وَحَالِهِ مَعَهُمْ وَتَذكِيرِهِمْ بِذَلِكَ لا سِيَّمَا عِندَ وُجُودِ مَا يَغْلِبُ عَلَيهِنَّ مِنْ كُفرَانِ العَشِيرِ وَجُحُودِ الإِحْسَانِ.
2. وَفِيهِ إِعجَابُ مُعظَمِ الزَّوجَاتِ وَحُصُولِ السَّعَادَةِ وَالرِّضَا عَنْ أزْوَاجِهِنَّ بِإِحسَانِ العِشْرَةِ لَهُنَّ خَاصَّةً فِي إِكرَامِهِنَّ, وَلِينِ الجَانِبِ مَعَهُنَّ, وَحُسْنُ التَّمَتُّعِ بِهِنَّ.
3. وَفِيهِ جَوَازُ الحَدِيثِ عَنِ الأُمَمِ الخَالِيَةِ وَالحِكَايَاتِ المَاضِيَةِ، وَضَرْبِ الأمثَالِ بِهِمْ اعتِبَارًا، وَجَوَاز الانبِسَاطِ بِذِكْرِ ظُرَفِ الأخبَارِ وَمُسْتطَابَاتِ النَّوَادِرِ تَنشِيطًا لِلنُّفُوسِ، وَلأخْذِ الفَوَائِدِ وَالدًّرُوسِ.
4. وَفِيهِ جَوَازُ الحَدِيثِ عَنِ المَجْهُولِ الَّذِي لا تُعرَفُ عَينُهُ وَلا اسمُهُ بِذِكْرِ مَا فِيهِ مِنَ العَيبِ لِلتَّنفِيرِ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ وَلا يَكُونُ هَذَا غِيْبَةً؛ لأنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا تَحَدَّثَتْ عَنْ نِسَاءٍ مَجْهُولاتٍ يَتَكَلَّمْنَ عَنْ رِجَالٍ مَجهُولِينَ لا تُعرَفُ أعيَانُهُمْ فَضْلاً عَنْ أسمَائِهِمْ.
احبتنا الكرام: نَشكُرُكُم, وَلِلحَدِيثِ تَتِمَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن