Take a fresh look at your lifestyle.

العلم الحديث بين نظرية الفوضى وفوضى نظريات علمائه!

يقول الحق سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ۖ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا ۘ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾.

قال الحسن وقتادة: لما ذكر اللهُ سبحانه الذبابَ والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود، وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. واليوم وبعد ما يَقارب الألف وخمسمئة عام تأتي هذه البعوضة (بأمر الله تعالى) لتُثبت للعلم الحديث مدى عجزه ومحدوديته وضعف إمكانياته في الإحاطة المطلقة بالعلوم!

فهذه البعوضة – الضعيفة والمُهملة – المخلوقة لله والمُسيّرة بأمره أحرجت العلم الحديث وعلمائه، ومرّغت غرورَهم وعنجهيتهم بالتراب، ووضعت عقولهم في مأزق كبير! فقد كان يتباهى معتنقو العلم الحديث بأنهم قادرون على توقع كل شيء في المستقبل اعتمادا على القوانين العلمية التي توصلوا لها وثقة بها؛ وذلك لأنهم استطاعوا معرفة نتائج بعض التفاعلات الكيميائية في المختبر، مثلا: عند دمج ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين ينتج جزيء ماء، أو لأنهم مثلاً استطاعوا قياس سرعة الجسيم وتسارعه ومكان وزمان سقوط المقذوفات..الخ، فظنوا أن باستطاعتهم أيضا حساب كل ما حصل قديما (مثل: كيفية نشوء الكون)، ومعرفة وتوقع كل التغيرات التي سوف تحصل اليوم أو مستقبلاً في العالَم سواء في مجال: المناخ، أو حركة البحار والرياح والأمطار، أو في حركة السوق والاقتصاد والأسهم المالية، أو في حساب نتائج الحروب قبل وقوعها، أو حتى في البشر من ناحية السلوك والتفكير والمجتمعات والزيادة السكانية ونقص الغذاء، أو نسب التلوث في الجو والماء وثقب الأوزون، أو ذوبان الجليد في القطبين وما يتبعهما من فيضانات, أو حتى حساب متى سينتهي الكون!

لكن في منتصف القرن الماضي، وتحديدا في العام 1961، ظهرت “نظرية الفوضى” بالعلم الحديث والتي تُختصر بقولهم أن:” رفرفة جناحيّ فراشة أو بعوضة في الهند قد تحدث فيضانات في نهر الأمازون”! وللتوضيح، إن رفرفة الجناحين ما هو إلا تعبير عما اكتشفه العالِم ” إدوارد لورينتز”، حيث وجد: “أنه عند حساب أي معادلة علمية في المختبر، يُعمد إلى التقريب لتسهيل الحساب (مثلا: 1.499999 ≈ 1.5)، لكن هذا الجزء الصغير الذي أضيف أو أٌهمل في العدد سوف يغير نتيجة المعادلة لو لم يُضاف أو يُهمل”، مصداقا لقول الحق سبحانه: ” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ” سورة القمر- 49. فالرقم الأول لا يساوي الرقم الثاني حتى لو قاربه جدا، والفرق المُهمل بينهما (كرفرفة مهملة لجناح فراشة أو بعوضة) قد يكون له تأثير عظيم وغير متوقع أبدا (كعظم فيضان نهر الأمازون) على كثير من المعادلات الكيميائية والطبية والاقتصاد..الخ.

هذا الاكتشاف رغم بساطته ظاهريا، إلا أنه جعل الكثير من القوانين العلمية الحديثة وحقائقها مشكوك بصحتها المطلقة، مما أوجب إعادة النظر فيما ظنه العلماء سابقا من المُسلمات العلمية، وأولها نظرة العلم الحديث للعالَم، حيث أن هذه النظرة التي وضعها “آينشتاين” في النظرية النسبية ترى أن العقل هو إحدى حقائق الوجود المطلقة؛ وأن ما كشفته هذه النظرية وميكانيكا الكم لا يمكن أن يتواءم مع النظرية القديمة (النظرية الميكانيكية للكون)؛ التي كانت تصف هيكل الزمان – المكان، وتصف خواص الجسيمات الأولية دون الرجوع إلى مراقب مشارك (أي إلى العقل), حيث كانت النظرة القديمة لا تتضمن إلا المادة والقوانين الطبيعية, أما النظرة العلمية الجديدة فمن المحتم عليها أن تتضمن المادة والقوانين الطبيعية إضافة إلى العقل.

لكن مع ظهور نظرية الفوضى أصبح عند كثير من العلماء شكوك بقدرة العقل المُطلقة على مراقبة العالَم؛ وذلك لاستحالة قدرة العلماء على الإحاطة بجميع القيم متناهية الصغر في المعادلات وحسابها رغم أثرها الكبير على النتائج كإعصار أمازوني! ولأنهم لم يتمكنوا من حساب وتوقع النتائج في العالَم بدقة مطلقة، لم يتهموا العقل بالقصور بل اتهموا العالَم بالفوضوية! هنا اهتزت ثقة هؤلاء العلماء بالعلم والمعرفة المُطلقة، فعكفوا على دراسة الظواهر التي اعتبروها فوضوية (مثل: تقلبات المناخ والاقتصاد.. الخ). لكن، ما أن بدأوا يسلّمون بفوضوية العالَم، حتى صدموا مرة أخرى صدمة أعنف! وذلك عندما اكتشفوا أن للفوضى قوانينا تضبطها وتحكمها رغم أنها تبدو لهم فوضوية! فأطلقوا على هذه القوانين الخفية عنهم والتي تحكُم الفوضى بعلم اللامتوقع. يقول الحق سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الدخان: 38-39].

وأصبح العلم الحديث يتخبط ولا يدري بأي اتجاه يسير! هل نحو “نظرية الفوضى”؟ أي: “هل عجز قوانين العلماء عن تنبؤ الكون بدقة مطلقة لأن هذا الكون عبارة عن فوضى لا يمكن قياسها بعقولهم”!؟ أم نحو “علم اللامتوقع”؟ أي: “هل قوانين العلماء ستكون قادرة يوماً ما أن تقيس هذه التنبؤات الكونية اللامتوقعة بدقة مطلقة فيخضع هذا الكون لعلمهم وسيطرة عقولهم”!؟

إن السبب الجوهري في هذا التخبط هو الركون إلى العلم المجرد وطريقته العلمية في البحث، والأصل في هذه المسائل استخدام الطريقة العقلية بدل العلمية (*). فالطريقة العلمية تقوم على البحث العميق في الواقع وعن أصل هذا الواقع مع التجرد من كل معلومة مسبقة عنه والانطلاقة من الفراغ دون أحكام مسبقة أو مُسلمات عن هذا الواقع، وإنما أخذ النتائج من الواقع نفسه من خلال إخضاعه للتجربة والوضعيات المختلفة. وهذه الطريقة تصلُح فقط لما يمكن قياسه في المختبر لكنها بالتأكيد تفشل في قياس ما لا يدخل المختبر, مثلا: التغير في السلوك البشري أو تنبؤ ما سيحدث في المستقبل من فناء للبشرية أو الأرض!

وأهل العلم الحديث من أتباع الطريقة العلمية كمن يبحث جاهداً عن حل أحجية “من جاء أولا؟ البيضة أم الدجاجة!؟” لذلك، يتوجب عليهم إعادة بحثهم (في المسائل غير الخاضعة للقياس في المختبر) بطريقة عقلية لينطلق تساؤلهم بدايةً مِن: “مَن أوجد هذه البيضة أو الدجاجة؟”. والطريقة العقلية في البحث هي التي تقوم على التفكير بالواقع بشكل مستنير، فتبحث فيه وفي متعلقاته وفق المعلومات السابقة المتعلقة به، من خلال الإحساس بالواقع وربطه بالمعلومات في الدماغ، ليقوده هذا الدماغ للتساؤل الصحيح: “من أوجد هذه الدجاجة وأودع فيها خصائصها؟ ومن أوجد هذا العالَم الذي ما زال العِلم عاجزا عن أبسط البسيط في معرفة ماضيه وحساب حاضره وتوقع مستقبله؟” عندها سيُقر العقل السوي بأنه مهما بلغ الإنسان من العلم أو العقل أو المعرفة، ستبقى علومه وعقله ومعارفه محدودة لا تستطيع أن تحيط إلا بالقليل من العلوم مما أراد الله تعالى لها أن تحيط به, يقول الحق سبحانه في الآية 85 في سورة الإسراء: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ويقول الله تعالى في آية الكرسي: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾، وعندها فقط يُسلّم هذا العقل بسكينة واطمئنان لما وراء حدوده وحدود الزمان والكون، يُسلّم لله الخالقِ المدبر ويتواضع لعظمة الله ولعظمة علمه الذي وسع الغيب والحاضر ووسع علوم العلماء ووسع كل شيء، قال سبحانه: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَٰذَاۖ فَاصْبِرْۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود: 49].

إذن، فالعلم يحتاج للعقل ليكون مشرفا عليه، والعقل يحتاج أن يكون موصولاً بخالقه ليهديه, قال تعالى: ﴿منْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف: 17]، وإلا ضاع العلم في فوضى وأصبح كما وصفه “آينشتاين” وهو أبو العلم الحديث: “العلم بلا دين كالرجل الأعرج” ليكون هذا العلم وبالاً على أصحابه في الدنيا والآخرة.

 

اللهم اجعلنا من الهُداة المُهتدين لدينك القويم

 

 

كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أم مكين

 

 

للمزيد:
(*) كتاب التفكير، للشيخ تقي الدين النبهاني، مؤسس حزب التحرير.
– كتاب “نظرية الفوضى” ، جايمس غليك.

 

2014_10_28_Art_Modern_Sience_and_Chaos_AR.pdf