مع الحديث النبوي الشريف العلم والتعليم والعلماء والمعلمون في دولة الخلافة
نُحَيِّيكُمْ جَمِيعًا أيها الأَحِبَّةُ المُستَمِعُونَ الكِرَامَ فِي كُلِّ مَكَانٍ, نَلتَقِي بِكُمْ فِي حَلْقَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ بَرنَامَجِكُم “مَعَ الحَدِيثِ النَّبوِيِّ الشَّرِيفِ” وَنَبدَأ بِخَيرِ تَحِيَّةٍ وَأزكَى سَلامٍ, فَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي المُعجَمِ الكَبِيرِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ فِي الْبَحْرِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ».
مستمعينا الكرام:
التَّقَدُّم وَالنُّهوضُ بِالأُمَمِ لَهُ أُسُسٌ وَمَبَادِئُ يَقُومُ عَلَيهَا إِنْ تَوَافَرَتْ تَقَدَّمَتِ الأُمَمُ وَإِلا فَلا، وَالنَّهضَةُ هِيَ الارتِقَاءُ الفِكْرِيُّ المُستَنِدُ إِلَى عَقِيدَةٍ صَحِيحَةٍ وَمَبدَأ عَقْلِيٍّ صَحِيحٍ يَنبَثِقُ عَنهُ نِظَامٌ يُعَالِجُ جَمِيعَ مَشَاكِلِ الإِنسَانِ فِي الحَيَاةِ, وَمِنْ هُنا نَجِدُ كُلَّ أُمَّةٍ سَارَتْ فِي طَرِيقِ نَهضَتِهَا, قَدْ بَدَأتْ بِتَفعِيلِ أدَوَاتِ النُّهُوضِ, وَأدَوَاتِ بِنَاءِ الإِنسَانِ الَّذِي هُوَ أسَاسُ النَّهضَةِ وَعِمَادُها، فَالعُنصُرُ البَشَرِيُّ هُوَ أهَمُّ عُنصُرٍ لا بُدَّ مِنْ بِنَائِهِ وَتَطوِيرِهِ وَتَنمِيَتِهِ وَالعِنَايَةِ بِهِ, وَالمُعَلِّمُ هُوَ أسَاسُ تَنشِئَةِ الأجيَالِ وَبِنَاءِ الأُمَمِ، فَلا بُدَّ مِنْ إِعطَائِهِ مَكَانَتَهُ، خُصُوصًا مُعَلِّمُ الصُّفُوفِ الابتِدَائِيَّةِ الأُولَى الَّذِي لَهُ الفَضْلُ الأكْبَرُ فِي تَنشِئَةِ العُقُولِ الصَّاعِدَةِ وَتَأسِيسِهَا تَربَويًّا وَفِكرِيًّا. لَقَدْ أوْلَى دِينُنَا الإِسلامِيُّ الحَنِيفُ العِلْمَ والتَّعلِيمَ عِنَايَةً فَائِقَةً, وَاهتِمَامًا بِالِغًا, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أنَّ أوَلَّ سُورَةٍ فِي القُرآنِ عَلَى الإِطلاقِ, وَهِيَ سُورَةُ العَلَقِ بَدَأتْ بِكَلِمَةِ “إِقْرَأ”, وَتَكَرَّرَتْ هَذِهِ الكَلِمَةُ فِي السُّورَةِ ذَاتِهَا مَرَّتَينِ, وتَكَرَّرَ فِيهَا لَفْظُ: “عَلَّمَ” وَ”يَعلَمُ” ثَلاثَ مَرَّاتٍ, كَمَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُ ”القَلَمُ” وَهُوَ الأدَاةُ المُستَخْدَمَةُ فِي الكِتَابَةِ. لَيسَ هَذَا فَحَسْبُ, بَلْ وَرَدَتْ فِي القُرآنِ سُورَةٌ كَامِلَةٌ اسْمُهَا سُورَةُ القَلَمِ, أقْسَمَ فِيهَا رَبُّ العِزَّةِ بِحَرفٍ مِنْ حُرُوفِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ, وَهُوَ حَرفُ النُّونِ, وَأقْسَمَ مَعَهُ بِالقَلَمِ وَمَا يُكتُبُهُ الكَاتِبُونَ. فَلَيسَ عَجِيبًا إِذَنْ أنْ يُطلَقَ عَلَى أُمَّةِ الإِسلامِ لَقَبُ “أُمَّةِ إِقرَأ”. وَيَجدُرُ بِنَا فِي هَذَا المَقَامِ أنْ نَذْكُرَ أنَّ الرَّسُولَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِثرَ غَزْوَةِ بَدرٍ الكُبرَى أذِنَ لأسْرَى المُشرِكِينَ بِأنْ يَفدِيَ كُلٌّ مِنهُمْ نَفْسَهُ بِتَعلِيمِ عَشَرَةٍ مِنَ المُسلِمِينَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ, وَبَدَلَ فِدَائِهِ يُدْفَعُ عَنهُ مِنْ بَيتِ مَالِ المُسلِمِينَ.
لَيسَ هَذَا فَحَسْبُ, بل أعْلَى الإِسلامُ شَأنَ العِلْمِ, وَرَفَعَ قَدْرَ العُلَمَاءِ, فَدَعَانَا القُرآنُ الكَرِيمُ إِلَى احتِرَامِ قَدْرِ أهْلِ العِلْمِ, قَالَ رَبُّنَا سُبحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). (المجادلة 11) وقَالَ سُبحَانَهُ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ). (الزمر 9) وَأثنَى رَسُولُنَا الكَرِيمُ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسَ الخَيرَ فَقَالَ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ». (رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ) وَلَكِنَّا نَجِدُ مَكَانَةَ المُعَلِّمِ فِي ظِلِّ أنظِمَةِ الضِّرَارِ الحَالِيَّةِ قَدِ انهَارَتْ وَتَرَاجَعَتْ؛ وَمِنْ ثَمَّ انهَارَ مُستَوَى التَّعلِيمِ، وَلِلأسَفِ نَهَضَتْ بِهَذِهِ المَكَانَةِ المُتقَدِّمَةِ الدُّوَلُ الأُخرَى نُهُوضًا مَادِّيًا, وَإِنْ كَانَتْ نَهضَةً نَاقِصَةً؛ لأنَّهَا لَمْ تَستَنِدْ إلى قَاعِدَةٍ فِكرِيَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَمَبدَأ عَقلِيٍّ صَحِيحٍ، فَمَا الفَرقُ بَينَنَا وَبَينَهَا إِذَنْ؟ لَو نَظَرنَا إِلَى ألمانيَا مَثَلاً لِنَعرِفَ مَدَى اهتِمَامِهَا بِالمُعَلِّمِ وَمَكَانَتِهِ، لَوَجَدْنَا أنَّ لِكُلِّ نَوعٍ مِنْ أنوَاعِ المَدَارِسِ فِي ألمانيَا مُعَلِّمِينَ مُؤَهَّلِينَ تَأهِيلاً خَاصًّا وَمُختَلِفًا، وَيَشتَرِطُونَ عَلَى جَمِيعِ المُدَرِّسِينَ أنْ يَكُونُوا مِنْ حَمَلَةِ الشَّهَادَاتِ الجَامِعِيَّةِ، وَنُلاحِظُ أنَّ رَوَاتِبَ المُعَلِّمِينَ فِي ألمَانيَا أعْلَى مِنْ رَوَاتِبِ القُضَاةِ وَالأطِبَّاءِ وَالمُهَندِسِينَ الألمَان!! وَذَلِكَ لأنَّ الرَّوَاتِبَ العَالِيَةَ تَجعَلُ المِهْنَةَ مَرغُوبَةً؛ فَيَتَّجِهُ لَهَا الطُّلابُ المُتَفَوِّقُونَ وَالمُتَمَيِّزُونَ؛ وَبِالتَّالِي يَنشَأ جِيلٌ مِنَ المُعَلِّمِينَ العَبَاقِرَةِ وَالمُبدِعِينَ وَالمُتَفَوِّقِينَ، وَهَذَا بِالتَّالِي يُؤَدِّي إِلَى نَقْلِ تَمَيُّزِهِمْ وَتَفَوُّقِهِمْ إِلَى تَلامِيذِهِمْ فَيَتِمُّ بِنَاءُ جِيلٍ مُتَحَمِّسٍ لِلعِلْمِ وَالعَمَلِ مَعًا, قَادِرٍ عَلَى ابتِعَاثِ نَهضَةِ بِلادِهِ. وَقَد تَظَاهَرَ القُضَاةُ فِي ألمَانيَا مُطَالِبِينَ بِمُسَاوَاةِ رَوَاتِبِهِمْ بِمُعَلِّمِي الابتِدَائِي؛ فَرَدَّتْ عَلَيهِمُ المُستَشَارَةُ الألمَانِيَّةُ مِيركِيل قَائِلَةً: “تَأدَّبُوا، كَيفَ تُطَالِبُونَنِي أنْ أُسَاوِيَكُمْ بِمَنْ عَلَّمُوكُمْ؟!!”
هَذِهِ دَولَةٌ أدْرَكَتْ مَا غَابَ عَنَّا، فَوَضَعَتِ المُعَلِّمَ فِي مَكَانَتِهِ الَّتِي يَستَحِقُّهَا، وَاعتَبَرَتِ العَمَلِيَّةَ التَّعلِيمِيَّةَ عَصَبَ حَيَاتِهَا. هَكَذَا يَكُونُ البِنَاءُ وَيَكُونُ التَّقَدُّمُ بِفَهْمِ مَكَانَةِ المُعَلِّمِ صَانِعِ النَّهضَةِ الأَسَاسِيِّ وَمُرَسِّخِ القِيَمِ وَالمَبَادِئِ؛ وَلِذَلِكَ نَجِدُ أنَّ الألمَانَ عِندَمَا يَنتَهِي أولادُهُمْ مِنَ الثَّانَوِيَّةِ العَامَّةِ, وَيَحْصُلُونَ عَلَى أعْلَى الدَّرَجَاتِ يُدخِلُونَهُمْ كُلِّيَّاتِ التَّربِيَةِ، وَلا يَتَهَافَتُونَ عَلَى مَا يُسَمَّى كُلِّيَّاتِ القِمَّةِ كَالطِّبِّ وَالهَندَسَةِ وَالإِعلامِ, وَيَبتَعِدُونَ عَنْ بَاقِي التَّخَصُّصَاتِ المَطلُوبَةِ كَمَا يَفعَلُ أبنَاؤُنَا. وَأذكُرُ هُنَا اليَابَانَ، الَّتِي دَمَّرَتْهَا القَنَابِلُ النَّوَوِيَّةُ الأمرِيكِيَّةُ مُنذُ سِتِّينَ عَامًا تَقرِيبًا، حَيثُ جَعَلَتْ بِدَايَةَ نَهضَتِهَا رَفْعَ رَاتِبِ المُعَلِّمِ إِلَى رَاتِبِ الوَزِيرِ، فَأصبَحَتِ اليَابَانُ عَلَى مَا نَرَاهَا عَلَيهِ، إِذْ لا يَخلُو بَيتٌ مِنْ بُيُوتِنَا مِنْ آثَارِ النَّهضَةِ العِلْمِيَّةِ اليَابَانِيَّةِ، تِلْكَ النَّهضَةُ الَّتِي انتَفَعَ بِهَا العَالَمُ بِأسْرِهِ. وَلِكَي نَعرِفَ سِرَّ تَقَدُّمِ اليَابَانِيِّينَ، فَلنُلْقِ نَظرَةً عَلَى تَعلِيمِهِمْ، وَمَدَى احتِرَامِهِمْ لِلمُعَلِّمِ، فَقَدْ سُئِلَ الإمبرَاطُورِ اليَابَانِيُّ ذَاتَ مَرَّةٍ، حَولَ هَذِهِ المَسألَةِ، فَقَالَ: “إِنَّ دَولَتَنَا تَقَدَّمَتْ، فِي هَذَا الوَقْتِ القَصِيرِ؛ لأنَّنَا بَدأنَا مِنْ حَيثُ انتَهَى الآخَرُونَ، وَتَعَلَّمْنَا مِنْ أخَطَائِهِمْ، وَأعطَينَا المُعَلِّمَ حَصَانَةَ الدِّبلُومَاسِيِّ، وَرَاتِبَ الوَزِيرِ”. فَالمُعَلِّمُ فِي اليَابَانِ يَحْظَى بِدَعْمٍ مَادِّيٍّ كَبِيرٍ, بِالإِضَافَةِ إِلَى المَزَايَا الأُخرَى المُتَعَدِّدَةِ اجتِمَاعيًّا وَطِبيًّا. وَفِي سِنغَافُورَة, تُكَرِّسُ الدَّولَةُ جُزءًا كَبِيرًا مِنْ مَوَارِدِهَا لِلارتِقَاءِ بِالتَّعلِيمِ، فَهِيَ تُدرِكُ أنَّهُ لا تَقَدُّمَ بِدُونِ تَعلِيمٍ مُتَقَدِّمٍ، وَمِنْ ثَمَّ وَضَعَتْ مِهنَةَ التَّعلِيمِ، ضِمْنَ المِهَنِ ذَاتِ الصِّيتِ العَالِي، وَتَمَّ مَنحُ المُعَلِّمِ مَسئُولِيَّةَ بِنَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ، وَتَحدِيدِ مَسَارِ مُستَقبَلِ الوَطَنِ، حَيثُ يَتَقَاضَى رَاتِبًا عَالِيًا، وَيُمنَحُ حَوَافِزَ مُجزِيَةً، إِضَافَةً إِلَى البَدَلاتِ وَالإِعَانَاتِ، كَمَا يُصْرَفُ لَهُ مَبلَغٌ مِنَ المَالِ سَنَويًّا لِتَطوِيرِ قُدْرَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ، مِنْ خِلالِ حُضُورِهِ لِدَورَاتٍ تَدرِيبِيَّةٍ فِي مَعَاهِدَ خَاصَّةٍ، أو شِرَاءِ مُستَلزَمَاتٍ تَقَنِيَّةٍ، ذَاتِ صِلَةٍ بِالتَّعلِيمِ المُتَقَدِّمِ. وَكَذَلِكَ تُعَدُّ بِريطَانيَا، مِنْ أكثَرِ الدُّوَلِ اهتِمَامًا بِالمُعَلِّمِ، مَاديًّا وَمِهنِيًّا وَمَعنَوِيًّا، فَتَمنَحُهُ أعْلَى الرَّوَاتِبِ، إِلَى جَانِبِ المُكَافَآتِ وَالحَوَافِزِ، الَّتِي تَرتَبِطُ بِأدَاءِ المُعَلِّمِ، وَمَدَى كَفَاءَتِهِ، فَمَا أحوَجَنَا نِحنُ المُسلِمِينَ أنْ نَرفَعَ مِنْ قَدْرِ وَمُستَوَى مُعَلِّمِينَا كَي نَرتَقِيَ بِأُمَّتِنَا نَحوَ الأمَامِ، وَنُعِيدَ لِلتَّعلِيمِ سِيرَتَهُ كَمَا كَانَ فِيمَا مَضَى رِسَالَةً سَامِيَةً, وَمُهِمَّةُ العُلَمَاءِ وَالمُعَلِّمِينَ فِيهَا تُشبِهُ مُهِمَّةَ الأنبِيَاءِ وَالرُّسُلِ, وَاقرَأ إِنْ شِئْتَ قَولَ نَبِيِّنَا عَلَيهِ الصلاة والسَّلامُ: «العُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنبِيَاءِ». وَقَولَ أمِيرِ الشُّعَرَاءِ المُستَوحَى مِنْ قَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
قُمْ لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَّبجِيلا …. كَادَ المُعَلِّمُ أن يَكُونَ رَسُولاً
قَالَ جُبرَان خَلِيل جُبرَان الأدِيبُ والكَاتِبُ المَعرُوفُ: “تُقَامُ الأوطَانُ عَلَى كَاهِلِ ثَلاثَةٍ: فَلاحٍ يُغَذِّيهِ, وَجُندِيٍّ يَحمِيهِ, وَمُعَلِّمٍ يُرَبِّيهِ!”. وَقَالَ قَائِدٌ ألمَانِيٌّ بَعدَ انتِصَارِ بِلادِهِ عَلَى فَرَنْسَا: “لَقَدِ انتَصَرَ المُعَلِّمُ الألمَانِيُّ عَلَى المُعَلِّمِ الفَرَنسِيِّ!”. وَبِالمُقَابِلِ قَالَ فَرَنسِيٌّ: “هُزِمَتِ المَدرَسَةُ الفَرنسِيَّةُ مُقَابِلَ المَدرَسَةِ الألمَانِيَّةِ!”. وَكِلتَاهُمَا أي فَرَنسَا وَألمَانيَا لَحِقَتَا رَكْبَ الأُمَمِ. وَقَالَ الأمرِيكَانُ عِندَمَا سَبَقَتْهُمْ رُوسيَا بِغَزْوِ الفَضَاءِ: “مَاذَا دَهَى نِظَامَنَا التَّعلِيمِيَّ؟”. هَذِهِ نَمَاذِجُ لِدُوَلٍ قَدَّرَتِ العِلْمَ وَالعُلَمَاءِ، فَتَقَدَّمَتْ، وَنَحْنُ فِي عَالَمِنَا الإِسلامِيِّ المُعَاصِرِ نَمَاذِجُ لِدُوَيلاتٍ انصَرَفَتْ عَنِ العِلْمِ، وَأهَانَتِ العُلَمَاءَ وَسَخِرَتْ مِنهْمْ فِي وَسَائِلِ إِعلامِهَا وَمُسَلسَلاتِهَا، فَتَقَهْقَرَتْ، وَأصبَحَتْ تَستَجدِي مُعْطَيَاتِ التَّقَدُّمِ العِلْمِيِّ مِنْ عَلَى كُلِّ المَوَائِدِ، مِنَ الصِّينِ وَاليَابَانِ وَأمرِيكَا وَأُورُوبَا، بَلْ وَالهِندِ أيضًا. نَحنُ المُسلِمُونَ فِي دُوَيلاتِ التَّخَلُّفِ قَدْ خَالَفنَاهُم جَمِيعًا! فَقُمْنَا بِتَدمِيرِ التَّعلِيمِ بَدءًا مِنْ تَحطِيمِ شَخصِيَّةِ المُعَلِّمِ, وَهَدْمِ كَيَانِهِ, وَمَا نَلحَظُهُ مِنْ فَسَادٍ وَتَخَلُّفٍ مَا هُوَ إِلاَّ مِنْ نَتَائِجِ غِيَابِ دَولَةِ الخِلافَةِ, وَتَحَكُّمِ الحُكَّامِ الرُّوَيبِضَاتِ فِي مَصِيرِ أمَّةِ الإِسلامِ, فَتَسَبَّبُوا بِتَدَهْوُرِ التَّعلِيمِ, وَزِيَادَةِ التَّنظِيرَاتِ المُخَرِّبَةِ لِلمُجتَمَعِ وَالمَقصُودَةِ وَالمُمَنهَجَةِ لِخِدْمَةِ الكَافِرِ المُستَعْمِرِ. وَيَبدُو وَاضِحًا أنَّ مُجتَمَعَاتِنَا قَدْ تَغَيَّرَتْ وَتَبَدَّلَتْ عَمَّا كَانَ عَلَيهِ السَّابِقُونَ مِنَ المُسلِمِينَ الأوَائِلَ الَّذِينَ تَرَكُوا لَنَا بَصْمَةً أصبَحْنَا فِيهَا مَنَارَةً يُشَارُ إِلَيهَا فِي جَمِيعِ العُلُومِ الكَونِيَّةِ وَالإِنسَانِيَّةِ، حَتَّى جَاءَ هَذَا الزَّمَنُ الَّذِي اختَلَّتْ فِيهِ جَمِيعُ المَعَايِيرِ، فَأصبَحَ المُعَلِّمُ لا يُقَدَّرُ وَلا يُحتَرَمُ حَتَّى مِمَّنْ يُقَدَّمُ لَهُمُ العِلْمُ مِنْ طُلابِهِ، بَلْ وَبَعضِ المُجتَمَعِ الَّذِي يَجْهَلُ دَورَهُ، حَتَّى أصبَحَتْ بَعضُ الأُسَرِ وَالأفرَادِ وَأنصَافِ المُتَعَلَّمِينَ يُفَضِّلُونَ أصْحَابَ الثَّروَاتِ وَيُقَدِّرُونَهُمْ وَيُبَجِّلُونَهُمْ وَيَحتَرِمُونَهُمْ أكْثَرَ مِنْ أرْبَابِ العِلْمِ مِنَ المُعَلِّمِينَ وَالعُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ، ألا مَا أتعَسَ أولَئِكَ الَّذِينَ يَحقِرونَ العُلَمَاءَ والمُعَلِّمِينَ!
أمَّا فِي دَولَةِ الخِلافَةِ القَادِمَةِ قَريبًا بِإِذْنِ اللهِ سَيَنَالُ المُعَلِّمُ مَا يَستَحِقُّهُ مِنَ تَقدِيرٍ وَاهتِمَامٍ مَادِّيٍ وَمَعنَوِيٍّ، حَتَّى يَنصَرِفَ هَمُّهُ كُلُّهُ إِلَى إِعدَادِ أبنَائِنَا وَبَنَاتِنَا، لِيَكُونُوا عُدَّةَ المُستَقبَلِ، وَلا يَقضِي يَومَهُ فِي البَحْثِ عَنْ مُستَلزَمَاتِ حَيَاتِهِ، وَتَحسِينِ دَخْلِهِ. كَمَا فِي زَمَنِنَا هَذَا حَيثُ جُعِلَ المُعَلِّمُ هَدَفًا لِلسُّخرِيَةِ، وَحُوصِرَ بِالمُشكِلاتِ الَّتِي تُعَوِّقُهُ عَنْ أدَاءِ مُهِمَّةِ الأنبِيَاءِ. وَأُبَشِّرُكُم بِأنَّ دَولَةَ الخِلافَةِ سَتَقتَلِعُ النِّظَامَ التَّعلِيمِيَّ الحَالِيَّ الَّذِي فَرَضَهُ عَلَينَا الكَافِرُ المُستَعمِرُ, بَلْ سَتَجْتَثُّهُ مِنْ جُذُورِهِ, وَقَدْ أعَدَّتْ لِلأجيَالِ القَادِمَةِ أُسُسًا وَأنظِمَةً وَقَوَانِينَ إِدَارِيَّةً جَدِيدَةً لِلمَنهَجِ التَّعلِيمِيِّ, وَهَيَّأتِ المَنَاهِجَ وَالكُتُبَ المَدرَسِيَّةَ لِكَافَّةِ مَرَاحِلِ الدِّرَاسَةِ وُمستَوَيَاتِهَا مِن ابتِدَائِيَّةٍ وَإِعدَادِيَّةٍ وَثَانَوِيَّةٍ, بَلْ وَحَتَّى مَرَاحِلِ الدِّرَاسَاتِ الجَامِعِيَّةِ العُلْيَا! وَسَيأتِي عَلَى أُمَّةِ الإِسلامِ يَومٌ يَسِيرُ المُسلِمُ فِي شَوَارِعِ دَولَةِ الخِلافَةِ فَيَرَى فِي كُلِّ شَارِعٍ عَشَرَاتِ المُجتَهِدِينَ, وَبَعدَ سَنَوَاتٍ قَلِيلَةٍ مِنْ قِيَامِهَا سَيَتَخَرَّجُ حَشْدٌ مِنَ المُجتَهِدِينَ وَالعُلَمَاءِ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
مستمعينا الكرام:
نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, وَالسَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ محمد أحمد النادي – ولاية الأردن