نداءات القرآن الكريم الأمر بالوفاء بالعقود وبيان ما يحل وما يحرم من الذبائح ج2
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود * أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد).
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نتابع وإياكم النداء الثامن والعشرين من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, نتناول فيه الآية الكريمة الأولى من سورة المائدة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود * أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد). نقول وبالله التوفيق:
يسترسل صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة فيقول: “وعلى عقد الإيمان بالله، والعبودية لله، تقوم سائر العقود .. سواء ما يختص منها بكل أمر, وكل نهي في شريعة الله، وما يتعلق بكل المعاملات مع الناس والأحياء والأشياء في هذا الكون في حدود ما شرع الله فكلها عقود ينادي الله الذين آمنوا، بصفتهم هذه، أن يوفوا بها. إذ أن صفة الإيمان ملزمة لهم بهذا الوفاء، مستحثة لهم كذلك على الوفاء .. ومن ثم كان هذا النداء: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود).. ثم يأخذ في تفصيل بعض هذه العقود: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود .. أحلت لكم بهيمة الأنعام- إلا ما يتلى عليكم- غير محلي الصيد وأنتم حرم. إن الله يحكم ما يريد .. يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا القلائد، ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا. وإذا حللتم فاصطادوا، ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا. وتعاونوا على البر والتقوى. ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله. إن الله شديد العقاب. حرمت عليكم الميتة، والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع- إلا ما ذكيتم- وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام. ذلكم فسق .. اليوم يئس الذين كفروا من دينكم، فلا تخشوهم واخشون .. اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا .. فمن اضطر في مخمصة- غير متجانف لإثم- فإن الله غفور رحيم).. إن هذا التحريم والتحليل في الذبائح، وفي الأنواع، وفي الأماكن، وفي الأوقات .. إن هذا كله من «العقود» .. وهي عقود قائمة على عقد الإيمان ابتداء. فالذين آمنوا يقتضيهم عقد الإيمان أن يتلقوا التحريم والتحليل من الله وحده, ولا يتلقوا في هذا شيئا من غيره .. ومن ثم نودوا هذا النداء، في مطلع هذا البيان .. وأخذ بعده في بيان الحلال والحرام: (أحلت لكم بهيمة الأنعام – إلا ما يتلى عليكم -) .. وبمقتضى هذا الإحلال من الله, وبمقتضى إذنه هذا وشرعه- لا من أي مصدر آخر ولا استمدادا من أي أصل آخر- صار حلالا لكم ومباحا أن تأكلوا من كل ما يدخل تحت مدلول (بهيمة الأنعام) من الذبائح والصيد- إلا ما يتلى عليكم تحريمه منها- وهو الذي سيرد ذكره محرما .. إما حرمة وقتية أو مكانية وإما حرمة مطلقة في أي مكان وفي أي زمان. وبهيمة الأنعام تشمل الإبل والبقر والغنم ويضاف إليها الوحشي منها، كالبقر الوحشي، والحمر الوحشية والظباء.
ثم يأخذ في الاستثناء من هذا العموم .. وأول المستثنيات الصيد في حال الإحرام: «غير محلي الصيد وأنتم حرم» .. والتحريم هنا ينطبق ابتداء على عملية الصيد ذاتها. فالإحرام للحج أو للعمرة تجرد عن أسباب الحياة العادية وأساليبها المألوفة, وتوجه إلى الله في بيته الحرام الذي جعله الله مثابة الأمان .. ومن ثم ينبغي عنده الكف عن بسط الأكف إلى أي حي من الأحياء .. وهي فترة نفيسة ضرورية للنفس البشرية تستشعر فيها صلة الحياة بين جميع الأحياء في واهب الحياة وتأمن فيها, وتؤمن كذلك من كل اعتداء, وتتخفف من ضرورات المعاش التي أحل من أجلها صيد الطير والحيوان وأكله؛ لترتفع في هذه الفترة على مألوف الحياة وأساليبها، وتتطلع إلى هذا الأفق الرفاف الوضيء. وقبل أن يمضي السياق في بيان المستثنيات من حكم الحل العام، يربط هذا العقد بالعقد الأكبر، ويذكر الذين آمنوا بمصدر ذلك الميثاق: (إن الله يحكم ما يريد) .. طليقة مشيئته، حاكمة إرادته، متفردا سبحانه بالحكم وفق ما يريد. ليس هنالك من يريد معه, وليس هنالك من يحكم بعده ولا راد لما يحكم به .. وهذا هو حكمه في حل ما يشاء وحرمة ما يشاء ..
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله: (أوفوا بالعقود) يعني بالعقود ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: (أوفوا بالعقود) أي بعقد الجاهلية, ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام». وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله: (أوفوا بالعقود) قال: بالعهود وهي عقود الجاهلية الحلف. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عقدة الإيمان, وعقدة النكاح, وعقدة البيع, وعقدة العهد, وعقدة الحلف. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في الآية قال: العقود خمس: عقدة الإيمان, وعقدة النكاح, وعقدة البيع, وعقدة العهد, وعقدة الحلف. وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة, ويأخذ صدقاتهم, فكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أمره بتقوى الله في أمره كله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (النحل 128) وأمره أن يأخذ الحق كما أمره, وأن يبشر بالخير الناس ويأمرهم به. الحديث بطوله.
وأخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدوا للحلفاء عقودهم التي عاقدت أيمانكم، قالوا: وما عقدهم يا رسول الله قال: العقل عنهم, والنصر لهم. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا في قوله: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) يقول: أوفوا بالعهود يعني العهد الذي كان عهد إليهم في القرآن فيما أمرهم من طاعته أن يعملوا بها, ونهيه الذي نهاهم عنه, وبالعهد الذي بينهم وبين المشركين, وفيما يكون من العهود بين الناس.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, وشفاء صدورنا, ونور أبصارنا, وجلاء أحزاننا, وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم ذكرنا منه ما نسينا, وعلمنا منه ما جهلنا, وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار, على الوجه الذي يرضيك عنا, واجعله اللهم حجة لنا لا علينا.. آمين آمين آمين برحمتك يا أرحم الراحمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي