فكرة الحياد: وهمٌ زائف من أجل تثبيت منظومة الفساد
انتقلت عدوى الحياد في المواقف بخصوص دعم مترشح للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية بين الأحزاب السياسية، ومن أبرز الأحزاب المتخذة لهذا القرار حركة النهضة حيث التزمت الحياد في الدور الأول وكذلك الدور الثاني وفوضت الأمر لقواعدها لانتخاب الرجل الأنسب لرئاسة الجمهورية في هذه المرحلة.
وقد ترددت بعض الأخبار حول عدم رضا عدد من قيادات حركة النهضة عن قرار الحياد، حيث جدت بعض النقاشات الحادة في صلب مجلس الشورى بين عدد من القيادات ورئيس الحركة راشد الغنوشي إلى حد دفعت هذا الأخير إلى التهديد بالاستقالة.
وعن ذلك عقب الناطق الرسمي باسم حركة النهضة زياد العذاري يوم الاثنين 08 ديسمبر 2014 خلال مداخلته في حصة ستوديو شمس في إذاعة شمس آف آم، مبينا أن “الحوارات بين قادة الحركة قد يكون فيها بعض الحماسة وقد يكون الحوار قوياً ومفتوحاً”، مستدركا “لكن لم تصل لحد التهديد بالاستقالة من قبل رئيس الحركة”.
كما نفى العذاري علمه بهذه الحادثة.
وفي سياق متصل أعلن تيار المحبة بقاءه على الحياد في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، أما الجبهة الشعبية فلم تحسم أمرها بعد وإن كان هناك ميل للبقاء على الحياد.
فما المقصود بالحياد؟ وهل يمكن الحديث عن النأي بالنفس وترك الساحة دون اتخاذ موقفٍ عمليٍّ وواضحٍ تجاه الواقع والأحداث؟
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على “ترك البحث في قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف”، ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق.
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): “حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة: مال عنه وعدل”. ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ..﴾ الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾. فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين…
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): “الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية”، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): “بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج.”
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها – كما يزعمون – موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله.
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم والمشتغل بالسياسة أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد أو لاتخاذ مواقف تجاه القضايا الراهنة حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيي من نصرة الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
وحري بمن يشتغل بالسياسة ويحمل مشروع تغيير أن يتخذ مواقفه وتوجهاته بناء على وجهة نظره في الحياة، فتكون قراءته للأحداث والوقائع انطلاقا من زاوية خاصة – زاوية العقيدة التي يحملها – ومن ثمّ يتخذ مواقفه وقراءته للأحداث.
إن المتمعن اليوم في واقع الأمة الإسلامية يلمس سعيها الحثيث من أجل الانعتاق والتحرر من أنظمة دكتاتورية أذاقتها الويلات، وما الثورات المتتالية والتي انطلقت شرارتها من تونس فمصر فليبيا فاليمن وسوريا إلا ثورة على نظام رأسمالي دموي خلف الفقر والحرمان وفرّط في ثروات الأمة وخيراتها وكمّم الأفواه وانتهك الأعراض والحرمات، فكان شعار الثورة “الشعب يريد إسقاط النظام”.
ولكن أنّى لهذه الثورات أن تنجح، والغرب الحاقد على الإسلام يمكر بالليل والنهار في سعي حثيث لحرفها عن مسارها مستعينا بأدواته المحلية – من حكام باعوا شعوبهم من أجل كراسي مهتزة ومعوجة – وبقروض مشروطة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب؟!
إن الواقع الحالي الذي تعيشه بلادنا اليوم – وباقي البلاد الإسلامية – يحتم على المشتغلين بالسياسة ومن يروم التغيير الحقيقي أن يدرك طبيعة الصراع اليوم ليتمكن من معرفة عدوه والأسلحة التي يحتاجها في المواجهة.
ولا يخفى على ذي حصافة أن الصراع اليوم هو بين مشروعين: مشروع يسعى لتأبيد النظام الرأسمالي الفاسد – المحتضر واقعا – في محاولة لإنقاذه وتلميعه بعد أن بان زيف ديمقراطيته وعلمانيته الدموية الاستبدادية “نحكمكم أو نقتلكم”، وبين مشروع يعمل على تحرير الأمة من ربقة الاستعمار واستعادة عزها ومجدها ووحدتها بتحكيم شرع ربها في دولة تحقق الرعاية والكفاية؛ خلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة.
فهل يعقل أن يكون الحياد موقفا وحلا صائبا في ظل الظروف التي يعيشها البلد اليوم؟
ألا يعد النأي بالنفس والبقاء على الحياد خيانة للأمانة وهروباً من المسؤولية؟
أليس الساكت عن الحق شيطاناً أخرس؟
كل الخشية أن يصبح حالنا كما وصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه “حين سكت أهل الحق عن الباطل، توهم أهل الباطل أنهم على حق”.
فعلى المسلم، ومن باب أولى من يشتغل بالسياسة ويسعى لقيادة الأمة أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾. [الأنفال: 24]
ويقول كذلك: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: 36].
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمد علي بن سالم