الانتقال الديمقراطي في تونس: من (الأخونة) إلى (الدعشنة)
إنها الديمقراطية وما أدراك ما الديمقراطية! إنها العصا السحرية التي ستحل مشاكل الشعوب شرقا وغربا إذا ما دانوا لها وخرّوا لها ساجدين، وهي البلسم الشافي والدواء الكافي الذي ما إن تركه القادة والساسة إلا وأصابتهم لعنة البيت الأبيض حتى يعتنقوا هذا الدين الجديد ويُلزموا أتباعهم بممارسة حقهم وواجبهم الانتخابي واختيار أحد مرشحي السفارات الأجنبية ممن رضي الغرب عنهم…
هذا هو لسان حال أدعياء الحداثة والتنوير بل لسان حال شقّ من الإسلاميين في بلادنا استطاع الغرب ترويضهم وإدخالهم إلى حظيرة الانتقال الديمقراطي لينهلوا من بحور المعرفة التكنوقراطية ويسبحوا بحمد الديمقراطية بأذكار توافقية تخلط الحابل بالنابل، وتتماهى فيها العلمنة مع الأخونة بدعوى “التكتيك”، وتُؤخَذ فيها الصُّور للذكرى، لتعيد الأجيالُ تكرار الأخطاء نفسها، وما زواج المتعة الذي أفتى بوجوبه البعض بين الإسلام والعلمانية في فترة ما بعد الثورات إلا نموذج إصلاحي جديد ومُجدّد لتجربة عبده والأفغاني ومن قبلهما “التكنوقراط” خير الدين باشا مُخمِد ثورة “محمد علي بن غذاهم” التي أُطلقت بدورها من سيدي بوزيد.
ولكن، بعد أن قطع الغرب شوطا في مسار تحييد خصومه وإخماد كل نفس ثوري يقوم على أساس الإسلام ويقطع مع الموروث الفكري والحضاري الذي أرساه بورقيبة في تونس اقتداءً بمجرم هذا العصر مصطفى كمال، وبعد أن استطاع عبر مَخابره ومُخابراته ابتكار إسلام معدّل جينيا يمتص غضب أبناء الأمة تجاه منتجات الرأسمالية في بلاد العالم الإسلامي من عولمة وعلمنة وهيمنة تغتصب إرادة الشعوب صباح مساء وتمارس عليها كل أشكال القذارة السياسية، بعد هذا كله انتقل أرباب الرأسمالية في العالم إلى مرحلة هي أشد خطورة على الناس من سابقتها، حيث تأكد لهم أن الإرهاب هو أربح قطاع يمكن الاستثمار فيه، فلم يعد يكفيهم دمقرطة الإسلام وصهره في بوتقة العلمانية ولا المراهنة على الإسلام المعتدل وانبطاح دعاته لضرب المشروع السياسي للإسلام وبيان فشله في رعاية شؤون الناس، بل وصلوا في عصر صراع الحضارات وسخونة الوضع في منطقة الشرق الأوسط إلى استحداث نسخة جديدة من الإسلام استلهاما مما وصلت إليه تجارب الأنظمة العميلة في العراق والشام. وقد تم توزيع هذه النسخة في كامل أنحاء العالم عبر كبرى وكالات الأنباء، ضمن اسطوانة مشروخة تحمل شعار: باقية وتتمدد.
إننا إذن في عهد جديد، هو عهد الدين المغشوش، وخلافة على منهاج العبوة، تنسف معارضيها باسم الإسلام، وتطبق على مخالفيها حدّ الردة وتحكم كل بلد إسلامي أراد الغرب أن تشمله نظرية الفوضى الخلاقة عبر “خليفة” مسردب متخفّ عن أتباعه.
إننا في عهد الانتقال من (الأخونة) إلى (الدعشنة)، ومن الإسلام المعتدل إلى الإسلام المتطرف، والقاسم المشترك، أن كلا المصطلحين هما صناعة غربية تريد الانتصار على عدو وهمي بقصد إنعاش المنظومة الرأسمالية القائمة على مبدأ الديمقراطية، ولنا في العراق وأفغانستان خير دليل ومثال على طرق إحلال هذه الديمقراطية.
نعم، إنها الديمقراطية وما أدراك ما الديمقراطية، دين الدجال الجديد، وأداة تركيع العبيد، إنها سبيل استهواء القلوب وفن تضليل الشعوب، إنها حكم الأقوياء على الضعفاء وإقناعهم طوعا أو كرها بأن العيب فيهم لا فيها وأنها المنزهة المقدسة سبحانها لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، لا يُجزى بها إلا من عمل من أجلها وناضل من أجل تعبيد الخلق لأحكامها وطاعة جندها وحكامها، المهم أن تفرض على الشعوب وحدها دون سواها. وإذا سلّمنا جدلا بالمقولة الحداثية لـ”جورج برنارد شو” من كون الديمقراطية لا تصلح لمجتمع جاهل لأن أغلبية من الجاهلين ستحدد مصيرك، فلا يسألن بعدها أحد عمّن فرعن فرعون وهيمن هامان وقَوْرن قارون إذا كان هؤلاء قد احتكروا العلم والمال والقوة واعتبروا شعوبهم من الجاهلين.
أما الخلافة التي فرضها الشرع كتابا وسنة وإجماعا لدى الصحابة الذين قدّموا بيعة أبي بكر رضي الله عنه على دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أجمعت على وجوبها المذاهب الأربعة واعتبرها ابن خلدون في مقدمته تاج الفرائض، فهي في نظر أتباع “فوكوياما” سراب خادع مضلل وعودة بالبشرية إلى ما قبل التاريخ والذي سيقف في نظرهم طبعا على الديمقراطية الغربية، ولذلك كان لا بد من تمييعها وتشويه صورتها عبر استغلال الإسلام المتطرف، ما دام الإسلام المعتدل قد فشل في استقطاب جمع من الناس.
والسؤال المطروح الآن على أمثال هؤلاء: من يعيش في السراب ويدفع بالبشرية نحو الخراب: من أراد تحرير العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، أمّن أعاد كتابة التاريخ وفق هواه ليجعل السلطة والهيمنة لأرباب المال، وأنسى الناس المفهوم الأصلي للديمقراطية من كونها حكم الأقوياء على الضعفاء منذ نشأتها في بلاد الإغريق قبل ميلاد المسيح عليه السلام (أي قبل ظهور الإسلام)، وأن السلطة فيها للشعب (الديمقراطية: ديموس(الشعب) – كراتوس (السلطة)) باعتبار أن الشعب أو المجتمع آنذاك كان بطبيعته عسكريا ينشأ أبناؤه بصفة أساسية على القتال، ومن لا يتقن القتال لا يعتبر من فئات المجتمع، وإنما هو من فئة العبيد بل يرمى من حافة جبل “تاجتوس” منذ ولادته إذا كان معاقا أو مريضا لا يصلح لاحقا للتجنيد؟
صحيح أن أقوياء هذا العصر هم أرباب النظام الرأسمالي العالمي وليست الجيوش التي ضعفت قوتها عبر العصور أمام سلطة المال، ولكن جنبات التاريخ كفيلة بمد العقلاء بالإجابة ليجدوا أن الحروب العالمية التي أنتجها النظام الرأسمالي خلال قرن ليست سوى نسخة حديثة من الحروب البيلوبونيسية أو الميسينية في بلاد اليونان أثناء حكم ديمقراطية تجري من تحتها أنهار من دماء البشرية منذ بداية التاريخ. تلك هي حقيقة الديمقراطية وما خفي كان أعظم.
قال تعالى: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
وسام الأطرش – تونس