﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾
أيها المسلمون: لقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم شكل الراية واللواء في الإسلام فاتبعوه تفلحوا
إن للدولة الإسلامية علماً، لواء كان أو راية، وذلك استنباطاً مما كان للدولة الإسلامية الأولى التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة. فاللواء يكون أبيض، مكتوباً عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخط أسود، وهو يُعقد لأمير الجيش ويكون علماً عليه. ودليله ما رواه ابن ماجه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح ولواؤه أبيض» وما رواه النسائي «أنه صلى الله عليه وسلم حين أمَّر أسامة بن زيد على الجيش ليغزو الروم عقد لواءه بيده». أما الراية فتكون سوداء، مكتوباً عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بخط أبيض، وهي تكون مع قواد فرق الجيش “الكتائب، السرايا، ووحدات الجيش الأخرى” ودليلها أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد كان قائد الجيش في خيبر، قال: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ويحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاها علياً» متفق عليه. فعلي، كرم الله وجهه، كان يعتبر حينها قائد فرقة أو كتيبة في الجيش. وأما دليل لونها فهو ما أخرجه الترمذي عن البراء بن عازب عندما سئل عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً مِنْ نَمِرَةٍ»… وهي تنتشر بأيدي الجند والناس عند رجوع الجند منصورين، ودليل ذلك ما أخرجه البخاري في التاريخ الكبير قال حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ قَالَ ثنا سَلامُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو الْمُنْذِرِ الْقَارِئُ قَالَ حَدَّثَنِي عَاصِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنِ الحارث بن حسان ابن كَلَدَةَ الْبَكْرِيِّ قَالَ: «دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ وَفُلانٌ قَائِمٌ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ فَإِذَا رَايَاتٌ سُودٌ تَخْفِقُ! قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قالوا: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدِمَ مِنْ جَيْشِ ذَاتِ السَّلاسِلِ» وكانوا قد رجعوا منصورين فكثرت الرايات احتفاء بالنصر…
ثم إن اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم راية سوداء يعقدها للكتائب ولواء أبيض يعقده لأمراء الجيوش هو فعل للرسول صلى الله عليه وسلم يجب التأسي به، فهو ليس خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فكما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة ومعه اللواء كذلك عقد اللواء لأسامة، وكذلك أقر الراية لجعفر وإخوانه في مؤتة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتي الجند بالخبر «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ» أخرجه البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وللراية شأن عظيم في الإسلام، فقد كانت تتخذ شعاراً للمسلمين يجتمعون إليها، وبها تتميَّز صفوفهم، ويُختار لها المقدمون الشجعان في قومهم وفي الجيش لإبقائها مرفوعة ظاهرة يراها الناس، فإن وقعت رفعوها واستبسلوا دون وقوعها، وذلك كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في مؤتة…
هذا عن الراية واللواء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإقراره، وعلى المسلمين أن يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون هذه الراية رايتهم، ويكون هذا اللواء لواءهم في دولة الإسلام، الخلافة الراشدة التي يقيمونها قريباً إن شاء الله، وإن لم يتأسوا برسول الله صلى الله عليه وسلم تكن فتنة… وهي مشاهدة محسوسة في جسم الأمة الممزق نتيجة تعدد الرايات لمزق الدول والفصائل!
هذا عن الراية الرسمية المعتمدة للدولة في الإسلام، وكذلك لواؤها… وهذا ما يعقد لأمراء الجيوش وما يُرفع من القادة في الحروب وما ينتشر بين الجند… وما يرُفع على مؤسسات الدولة ودوائرها… وما ينتشر بين الناس في أعيادهم وفي مواكب النصر… هذا هو اللواء والراية في دولة الإسلام تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما أن بعض القبائل كانت تتخذ راية بلون خاص بها في الحروب للتمايز فهذا جائز، فيمكن أن يتخذ جيش الشام في الحرب راية بلون آخر مع الراية السوداء، وجيش مصر راية بلون آخر مع الراية السوداء… وهذا من المباحات وقد ورد عند الطبراني في الكبير عن مَزِيدَةَ الْعَبْدِيَّ، يَقُولُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ رَايَاتِ الْأَنْصَارِ فَجَعَلَهُنَّ صُفَرًا»، وكذلك ورد عند ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني عَنْ كُرْزِ بْنِ سَامَةَ قَالَ: «…وَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَقَدَ رَايَةَ بَنِي سُلَيْمٍ حَمْرَاءَ»، فهذا من المباحات، والجيوش اليوم تتخذ كتائبها شارات تميزها غير علم الدولة الرسمي، كما هو من المباحات أيضا تمييز الجيوش بأسمائها، كأن يوضع لكل جيش من هذه الجيوش رقم، فيقال: الجيش الأول، الجيش الثالث مثلاً، أو يُسمى باسم ولاية من الولايات، أو عِمالة من العمالات، فيقال، جيش الشام، جيش حلب مثلاً ويجوز لهذه الفرق أن يكون لها علم خاص يميزها إدارياً يرفع مع راية الدولة.
وهكذا فإن للدولة الإسلامية راية محددة الأوصاف، وهي الراية الشرعية التي تستظل بها دار الإسلام، وتستظل بها جيوش الإسلام، فتنجوا من القِتلة الجاهلية التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه مسلم: «… وَمَنْ قَاتلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أو يَدْعُو إِلى عَصبَةٍ، أو يَنْصُرُ عَصَبَة، فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِليَّةٌ». وفي هذه الحال سمَّاها راية عُمِّية أو عِمِّيَة “من التعمية، وهو التلبيس، وفسرت بالضلال” فسرها تمام الحديث بأن يقاتل عصبية، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، لقوم أو لفئة أو لطاغوت أو لأيِّ أمر لغير الله، كقتال الجاهليَّة، أو أن يقاتل لَا نُصْرَةً للدِّينِ وإقامة حكم الله، ولا جهاداً لإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، بل يقاتل تحت راية عمية كما ذكر الحديث، وعندها إن قتل فقتلة جاهلية. وهذا الحديث ربط الراية بالمعنى وليس بالشكل فقط. وما يؤيد هذا المعنى ما ورد للراية من معنى الغاية التي يقاتَل من أجلها، فقد روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم عن بني الأصفر، أي الروم، حيث قال: «… هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأَصْفَرِ، فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً» أي ثمانين راية. من هنا كانت الراية تحمل في طياتها الفكرة والغاية التي يقاتل من أجلها.
على أنه من المعلوم أن الدول تتخذ عادة أعلاماً تعرف بها، وتضمنها شعارات أو رسوماً أو كلاماً تعبر عن أفكارها وتوجهاتها، وتضفي عليها نوعاً من القدسية، وتطلب من مواطنيها أن يكون رمز الولاء لها رمزاً للولاء لوطنهم. وهذا يعتبر من الأعراف الدولية. ومن هذا الباب، أثار حفيظة الغرب وحكام الضرار العملاء له اتخاذ المسلمين في سوريا الشام للعلَم الذي اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم “راية كانت أو لواء”. وانبرى بعض العلماء يفتون لبعض الفصائل على مذهب الحكام أنه يمكن اتخاذ أي شكل للراية أو للعلَم، وأنه ليس من الضروري الالتزام براية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأنه يمكن تعدُّدُها، مبررين لهم اتخاذ راية سايكس بيكو العمِّية التي وضعها الفرنسيون والإنجليز ليكرسوا فكرة الوطنية؛ فجعلوا لكل قطر من الأقطار الإسلامية علماً يرمز إليه، فكانت هذه الأعلام رمزاً للتشرذم والانقسام، وبديلاً عن العُقاب؛ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهؤلاء المستعمرون الكفار، أعداء الإسلام، طلبوا من عملائهم حكام المسلمين الحفاظ على رايات التجزئة؛ لأنهم يعلمون أن الولاء لهذه الرايات يعني الولاء للكفار المستعمرين. وبما أن الراية تكون رمزاً لما وضعت له؛ لذلك فهم يحرصون كل الحرص على أن لا تُمسَّ إلا بإرادتهم. فأصل المشكلة عند الغرب أنه يرفض الراية الإسلامية؛ لكونها تعني أنها كانت راية دولة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكونه يخاف أن تكون راية دولة الخلافة الراشدة الموعودة التي تجمع المسلمين تحتها. وأصل المشكلة عند هؤلاء العلماء أن عقليتهم لم تبنَ على البراء من هؤلاء الحكام، وغاب عن أذهانهم أن دولة الخلافة هي دولة تجمع المسلمين تحت رئاستها، ويكون الولاء فيها لله وحده…
أيها المسلمون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ للدولة الإسلامية الأولى لواء وراية بأوصاف واضحة محددة دلت عليها النصوص، وإن حزب التحرير يدعوكم إلى أن تتأسوا بالرسول صلى الله عليه وسلم فتفلحوا… ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.