Take a fresh look at your lifestyle.

المحكمة الدستورية والتجاذبات السياسية

 

“الشعب يريد إسقاط النظام”، هذا الشعار العظيم الذي يدلل قطعيا بأن الناس لا يقصدون مجرد تغيير بعض الوجوه، كما أنهم لا يريدون أن يكونوا مادة اختبار تشرحهم بعد سلخهم لمرحلة أخرى.

القضاء أمر لازم لقيام الأمم وسعادتها، وحياتها حياة طيبة، ولنصرة المظلوم وقمع الظالم وفض الخصومات والنزاعات وأداء الحقوق إلى مستحقيها، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللضرب على أيدي العابثين وأهل الفساد، ولضمان سيادة التشريع في المجتمع وتحقيق الأمن.

والمتتبع لموضوع المحكمة الدستورية يلاحظ بكل يقين أن الغرب استعملها كورقة استعمارية أخرى لإنقاذ الأنظمة الحاكمة في العديد من الفترات والبلدان، كما استعملت من الأساليب لسرقة الثورات وذلك عن طريق ما يسمى بالمحاكم الدستورية أو المحاكم العليا أو التمييز وكأن القضاء في ظل الأنظمة البائدة يختلف عن جنس هذه الأنظمة التي لم نسمع لها أي صوت أو تحرك يذكر وكانت تنأى بنفسها عندما كانت الاتهامات تكال للأنظمة حتى عند تجاوز أحكام الدساتير الوضعية الوضيعة الظالمة سواء في تزوير الانتخابات أو الاعتقالات أو التعذيب أو المعاهدات.

هذه التجاذبات السياسية والمعارك الدستورية تجري في ظل الترويج إلى إيجاد قضاء مستقل ونزيه بحيث يجري تفريغ الثورات من محتواها وسرقتها وخطف حتى بعض نتائجها الهزيلة.

فالتجاذبات السياسية ومنها المعارك القانونية ذات المنشأ الوضعي وإنزالها بمكانة القدسية التي لا يجوز الطعن فيها، علما بأن الدستور هو مبعث استغراب واستهزاء من طرف القانونيين بالذات فكيف يمكن أن يكون مرجعا وفاصلا لفض النزاعات وتحقيق ما تصبو إليه الأمة من رفع الاستعمار والارتهان للأجنبي والحفاظ على ثرواتها الباطنية والتشريعية؟!

والقضاء كما عرفه المسلمون، ومنهم علماء الزيتونة هو الإخبار بالحكم على سبيل الإلزام؛ فهو إحقاق لحقّ وإبطال لباطل وتحقيق عدل حتى تفصل الخصومة بين الناس، أو يمنع ما يضر الجماعة، أو يرفع أي نزاع يمكن أن يقع بين الناس وأي شخص في جهاز الحكم، وأمر الناس لا يستقيم دون القضاء، فالأمر بالمعروف وردع الظالم ونصرة المظلوم واجبات لا تتم دون القضاء، فالقاعدة الشرعية تقول: (ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب) ودليل ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾ [النساء: 135]

لهذا كانت نظرة المسلمين للقضاء نظرة تقدير واحترام وللقاضي، نظرة قيادة وريادة فهو السياسي الفقيه وهو الفقيه السياسي السبّاق في قول كلمة الحقّ.
وتاريخ المسلمين حافل بنماذج من القضاة الذين يعتبرهم النّاس منارات يعتزّون بها ويقتدون بها في الحكم بالحقّ ولو على الحاكم والولد والوالد، وذلك كالقاضي شريح والإمام مالك والشافعي والعزّ بن عبد السلام والقاضي عياض والشيخ محمد الطّاهر بن عاشور والإمام محمّد الخضر حسين والشيخ تقيّ الدين النبهاني وغيرهم…

مع دخول الاستعمار إلى بلادنا حوّل القضاء من مجال يأنس فيه الناس العدل إلى وضعية أخرى تعجز عن إزاحة ظلم متأصل بمجلات وقوانين تسمح للأجنبي بأن ينهب خيرات البلاد ويعتدي علينا باسم قوانين دولية ومنظمات عالمية تتحكم في رقابنا.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ أهمّ وأُمّ المجلاّت القانونيّة التّونسيّة “مجلّة الالتزامات والعقود” هي من إنشاء العلماني الإيطالي «David Santilana» بأمر من المستعمر، والتّي لم يطرأ عليها تقريبا أي تغيير في جوهرها إلى يومنا هذا.

واعتمادا على ما سبق نتبين ما يلي:

– إذا كان من دور القاضي أن يعيد حقوق الناس وأن يُلتجأ إليه، فمن باب أولى وأحرى أن يكون محمياً وذا سلطان.

– إن وضع درجات للقضاء ليس للقضاة هو بخس أحكامهم وجعلها في مرتبة الإفتاء دون سبيل الإلزام.

– القضاء جهاز من الولاية، ولا يصح أن يخضع لأي تشريع لا يستند إلى أصل ثابت بحسب العقيدة الإسلامية، قال تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.

– إن تعيين القضاة لا يصح أن يخضع لمحاصصات بين مختلف السلطات مما يوحي أن رأي القاضي تغلب عليه القوة العددية لا قوة الحجة.
– إن ما يسمى بالمحكمة الدستورية أو جهاز لمراقبة مدى دستورية القوانين والقرارات لا يمكن أن تكون لها كلمة الفصل العادل إذا كان أحد الأطراف هو من يشرع. والتشريع كما هو معلوم إذا ترك لفئة أو لجهة فإنها محدودة وعرضة للاختلاف والتناقض والتأثر بالبيئة التي يعيش فيها، فإذا كانت الأغلبية في البرلمان غير راضية أو تعارضه مع مصلحتها فإنها تنقضه.

– إن ما يميز المحكمة العليا وهي محكمة المظالم في فقهنا وتشريعنا الإسلامي أنها أعلى سلطة في البلاد؛ لا تتمتع بما يسمى بالحصانة فيجري عليها من قوانين وعقوبات ما يجري على بقية الرعية بل يطبق عليها العزل، ولا تتمتع بصلاحية عزل القاضي الذي ينظر في قضية هي طرف فيها، فالأحكام الشرعية قيود قانونية لا تملك أي سلطة الخروج عنها ولا تجاوزها لأن سلطتها مقيدة بسلطة شرعية أعلى منها.

– كما أن محكمة المظالم هي محكمة تستند إلى الأحكام الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وتختص بكل قضية ترفع في شأن الدولة ومن يديرها.
– وقاضي المظالم يكون مجتهداً، ولا يحدد له أجرٌ بوصفه موظفا للمظالم، أي لا يأخذ حكم الأجير وإنما يقدر له معاش محدد بقدر حاجته كالرئيس فهو صاحب مهمة.

 

ودليله قول الله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ [النساء: 59]

 

 

كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
سليم بن صميدة – تونس

 

2015_02_16_Art_Constitutional_Court_AR_OK.pdf