Take a fresh look at your lifestyle.

إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي عمل الأجير: تحديد العمل (ح 51)

 

 

 

 إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي

 

عمل الأجير: تحديد العمل (ح 51)

 

 

 

 

 

 

الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.

 

 

أيها المؤمنون:

السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ الحَادِيَةِ وَالخَمسِينَ, وَعُنوَانُهَا: “عمل الأجير: تحديد نوع العمل”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 86) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:

 

“وَالإِجَارَةُ هِيَ الانتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الشَّيءِ المُؤَجَّرِ. وَهِيَ بِالنِّسبَةِ لِلأجِيرِ الانتِفَاعُ بِجُهْدِهِ. وَلا بُدَّ فِي إِجَارَةِ الأجِيرِ مِنْ تَحدِيدِ العَمَلِ، وَتَحدِيدِ المُدَّةِ، وَتَحدِيدِ الأُجرَةِ، وَتَحدِيدِ الجُهْدِ, فَلا بُدَّ مِنْ بَيَانِ نَوعِ العَمَلِ، حَتَّى لا يَكُونَ مَجْهُولاً؛ لأنَّ الإِجَارَةَ عَلَى المَجهُولِ فَاسِدَةٌ، وَلا بُدَّ مِنْ تَحدِيدِ مُدَّةِ العَمَلِ، مُيَاوَمَةً أو مُشَاهَرَةً أو مُسَانَهَةً، وَلا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ أُجرَةِ العَامِلِ. عَنِ ابنِ مَسعُودٍ قَالَ: قَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِذَا استَأجَرَ أحَدُكُمْ أجِيرًا فَليُعْلِمُهُ أجْرَهُ».

 

وَرَدَ فِي كَنْزِ العُمَّالِ عَنِ الدَّارقُطنِيِّ: “وَلا بُدَّ مِنْ تَحدِيدِ الجُهْدِ الَّذِي يَبذُلُهُ العَامِلُ، فَلا يُكَلَّفُ العُمَّالُ مِنَ العَمَلِ إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ”. قَالَ تَعَالَى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «إِذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنهُ مَا استَطَعْتُمْ». رَوَاهُ الشَّيخَانِ مِنْ طَرِيقِ أبِي هُرَيرَةَ.

فَلا يَجُوزُ أنْ يُطلَبَ مِنَ العَامِلِ أنْ يَبذُلَ جُهْدًا إِلاَّ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ المُعتَادَةِ. وَبِمَا أنَّ الجُهْدَ لا يُمكِنُ ضَبطُهُ بِمِعْيَارٍ حَقِيقِيٍّ، كَانَ تَحدِيدُ سَاعَاتِ العَمَلِ هُوَ أقْرَبُ مِيزَانٍ لِضَبْطِهِ فِي اليَومِ الوَاحِدِ. فَتُحَدَّدُ سَاعَاتِ العَمَلِ ضَبْطًا لِلجُهْدِ. وَيُحَدَّدُ مَعَهَا نَوعُ العَمَلِ، كَحَفْرِ أرضٍ صَلْبَةٍ أو رَخْوَةٍ، وَطَرْقِ حَدِيدٍ، أو قَطْعِ حِجَارَةٍ، أو سَوْقِ سَيَّارَةٍ، أو عَمَلٍ فِي مَنجَمٍ، فَإِنَّهُ يُبَيَّنُ مِقدَارُ الجُهْدِ أيضًا.

 

وَبِذَلِكَ يَكُونُ العَمَلُ قَد حُدِّدَ فِي نَوعِهِ وَمُدَّتِهِ وَأُجرَتِهِ، وَالجُهْدِ الَّذِي يُبذَلُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَإِنَّ الشَّرعَ حِينَ أبَاحَ استِخدَامَ العَامِلِ احتَاطَ فِي تَحدِيدِ عَمَلِهِ، نَوعًا وَمُدَّةً وَأُجرَةً وَجُهْدًا. وَهَذَا الأجْرُ الَّذِي يَأخُذُهُ الأجِيرُ عِوَضَ قِيَامِهِ بِالعَمَلِ مِلْكٌ لَهُ بِالجُهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ”.

 

ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: إِذَا غَابَت تَقْوَى اللهِ عَنْ إِحسَاسِ العَبدِ وَغَابَتْ عَنهُ القَاعِدَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي تَقُولُ: “مَنْ أخَذَ الأُجْرَةَ حَاسَبَهُ اللهُ عَلَى العَمَلِ”. وَغَابَ عَنهُ أنَّ اللهَ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ, يَرَاقِبُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ, فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ اللَّحظَةِ يَغفُلُ عَنِ اللهِ, وَيَكُونُ مُهَيَّئًا لأنْ يَستَحْوِذَ عَلَيهِ الشَّيطَانُ وَيُغرِيَهُ بِمَعصِيَةِ اللهِ, وَفِي مُقَدِّمَتِهَا أكْلُ المَالِ الحَرَامِ, عِندَئِذٍ لا يُجْدِي مَعَ العَامِلِ أوِ الأجِيرِ أوِ المُوَظَّفِ تَحدِيدُ نَوعِ العَمَلِ وَمُدَّتِهِ وَأُجرَتِهِ، وَالجُهْدِ الَّذِي يُبذَلُ فِيهِ؛ لأنَّهُ لَنْ يَلتَزِمَ بِهَذَا التَّحدِيدِ.

 

أثناء دِرَاسَتِي فِي دَارِ إِعدَادِ المُعَلِّمِينَ رَأيتُ بِأمِّ عَينِي عُمَّالاً يَعمَلُونَ مُيَاوَمَةً فِي حَفْرِ أُخدُودٍ فِي الطَّرِيقِ العَامِّ, رَأيتُ أحَدَهُمْ يَلُفُّ سِيجَارَةً يَستَغرِقُ لَفُّهَا من وَقْتِ العَمَلِ زَمَنًا طَوِيلاً, وَرَأيتُ آخَرَ وَاقِفًا يَتَظَاهَرُ بِالعَمَلِ يُمسِكُ خُرطُومَ هَوَاءِ آلَةِ الحَفْرِ, الَّذِي لا يَحتَاجُ أحَدًا ليُمسِكَ بِهِ, وَرَأيتُ ثَالِثًا انتَحَى جَانِبًا وَأخَذَ يُصَلِّي وَقْتَ الضُّحَى صَلاةَ نَافِلَةً يَخْشَعُ بِهَا يُطِيلُ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا, رُبَّمَا لا يُصَلِّيهَا لَو كَانَ فِي بَيتِهِ, وَلَو صَلاهَا لَمَا خَشَعَ هَذَا الخُشُوعَ, وَلَكِنَّهُ لإِضَاعَةِ وَقْتِ العَمَلِ عَلَى حَدِّ قَولِ القَائِلِ: “غَيِّبُوا الشُّمُوسَ وَأحْصُوا الفُلُوسَ!”.

 

وَمِنْ خِلالِ عَمَلِي فِي التَّدرِيسِ رَأيتُ بِأُمِّ عَينِي أيضًا أحَدَ المُعَلِّمِينَ يَعمَلُ فِي وَظَائِفَ ثَلاثٍ فِيمَا أعْلَمُ, وَرُبَّمَا يَعْمَلُ فِي وَظِيفَةٍ رَابِعَةٍ لا أعْلَمُهَا: يَعْمَلُ مُعَلِّمًا مَعِي فِي المَدرَسَةِ الَّتِي أعْمَلُ بِهَا, وَيَعمَلُ مُذِيعًا فِي دَارِ الإِذَاعَةِ, وَيَعمَلُ مُحَرِّرًا فِي إِحدَى الصُّحُفِ الَمَحَلِّيَّةِ, وَرُبَّمَا يَعْمَلُ فِي دَائِرَةِ المُخَابَرَاتِ.

 

لقد رَأيتُهُ يَحضُرُ إِلَى غُرفَةِ الصَّفِّ, وَيُحْضِرُ مَعَهُ صُحُفًا خَلِيجِيَّةً قَدِيمَةً وَمِقَصًّا, يُسْكِتُ الطُّلابَ, ثُمَّ يَجْلِسُ خَلْفَهُمْ فِي المَقعَدِ الأخِيرِ كَي يُحَضِّرَ بَرنَامَجَ الإِذَاعَةِ, وَيُنجِزَ أعْمَالَ الصَّحَافَةِ, يَقُصُّ مَقَالاً مِنْ هُنَا وَتَعلِيقًا مِنْ هُنَاكَ, يَمْحُو اسمَ كَاتِبِهِ, وَيُثَبِّتَ اسُمَهُ عَلَيهِ, ثُمَّ يُرسِلَهُ إِلَى الصَّحِيفَةِ الَّتِي يَعْمَلُ بِهَا لِتَنشُرَهُ بِاسْمِهِ, وَعِندَمَا يَقرَعُ جَرَسُ المَدرَسَةِ مُعلِنًا انتِهَاءَ الحِصَّةِ يَخرُجُ مِنَ الصَّفِّ دُونَ أنْ يَنفَعَ الطُّلابَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَكُنْتُ أسْمَعُ أحَدَ شَبَابِنَا يَقُولُ لَهُ وَلِغَيرِهِ مِنْ أمثَالِهِ: “حَلِّلْ قِرْشَكَ يَا أخِي!!” أيْ أخْلِصْ فِي عَمَلِكَ وَأتقِنْهُ كَي تَجْعَلَ رَاتِبَكَ الذي تَتَقَاضَاهُ عَلَى الوَظِيفَةِ الَّتِي أنْتَ فِيهَا حَلالاً.

 

 

وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:

 

1. الإِجَارَةُ هِيَ الانتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الشَّيءِ المُؤَجَّرِ.

2. الإِجَارَةُ بِالنِّسبَةِ لِلأجِيرِ: هِيَ الانتِفَاعُ بِجُهْدِهِ.

3. لا بُدَّ فِي إِجَارَةِ الأجِيرِ مِنَ الأُمُورِ الأربَعَةِ الآتِيَةِ:

 

أ‌- لا بُدَّ مِنْ تَحدِيدِ العَمَلِ، وَتَحدِيدِ المُدَّةِ، وَتَحدِيدِ الأُجرَةِ، وَتَحدِيدِ الجُهْدِ.

ب‌- لا بُدَّ مِنْ بَيَانِ نَوعِ العَمَلِ، حَتَّى لا يَكُونَ مَجْهُولاً؛ لأنَّ الإِجَارَةَ عَلَى المَجهُولِ فَاسِدَةٌ.

ت‌- لا بُدَّ مِنْ تَحدِيدِ مُدَّةِ العَمَلِ، مُيَاوَمَةً أو مُشَاهَرَةً أو مُسَانَهَةً.

ث‌- لا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ أُجرَةِ العَامِلِ.

 

4. لا يَجُوزُ أنْ يُطلَبَ مِنَ العَامِلِ أنْ يَبذُلَ جُهْدًا إِلاَّ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ المُعتَادَةِ.

5. أقْرَبُ مِيزَانٍ لضَبطُ الجُهْدِ هُوَ تَحدِيدُ سَاعَاتِ العَمَلِ فِي اليَومِ الوَاحِدِ.

6. تُحَدَّدُ سَاعَاتِ العَمَلِ ضَبْطًا لِلجُهْدِ. وَيُحَدَّدُ مَعَهَا نَوعُ العَمَلِ، وَيُبَيَّنُ مِقدَارُ الجُهْدِ أيضًا.

7. تَحدِيدُ نَوعُ العَمَلِ كَحَفْرِ أرضٍ صَلْبَةٍ أو رَخْوَةٍ، وَطَرْقِ حَدِيدٍ أو قَطْعِ حِجَارَةٍ، أو سَوْقِ سَيَّارَةٍ، أو عَمَلٍ فِي مَنجَمٍ.

8. حِينَ أبَاحَ الشَّرعُ استِخدَامَ العَامِلِ احتَاطَ فِي تَحدِيدِ عَمَلِهِ، نَوعًا وَمُدَّةً وَأُجرَةً وَجُهْدًا.

9. الأجْرُ الَّذِي يَأخُذُهُ الأجِيرُ عِوَضَ قِيَامِهِ بِالعَمَلِ مِلْكٌ لَهُ بِالجُهْدِ الَّذِي بَذَلَهُ.

 

 

أيها المؤمنون:

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الراشدة الثانية على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.