إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 56)
حكم إجارة المنافع المحرمة
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ وَالخَمسِينَ, وَعُنوَانُهَا: “حُكْمُ إِجَارَةِ المَنَافِعِ المُحَرَّمَةِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 93) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
“يُشتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِجَارَةِ أنْ تَكُونَ المَنفَعَةُ مُبَاحَةً، وَلا تَجُوزُ إِجَارَةُ الأجِيرِ فِيمَا مَنفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ، فَلا تَجُوزُ إِجَارَةُ الأجِيرِ عَلَى حَمْلِ الخَمْرِ لِمَنْ يَشتَرِيهَا. وَلا عَلَى عَصْرِهَا، وَلا عَلَى حَمْلِ خِنْزِيرٍ، وَلا مَيتَةٍ، فَقَد رَوَى التِّرمِذِيُّ عَنْ أنَسٍ بنِ مَالِكٍ قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالمُشْتَرِي لَهَا، وَالمُشْتَرَاةُ لَهُ».
وَكَذَلِكَ لا تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أعمَالِ الرِّبَا؛ لأنَّهُ إِجَارَةٌ عَلَى مَنفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ، وَلأنَّهُ قَد رَوَى ابنُ مَاجَةَ عَنْ طَرِيقِ ابنِ مَسعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، «أنَّهُ لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَشَاهِدَيهِ وَكَاتِبَهُ». أمَّا مُوَظَّفُو المَصَارِفِ (البُنُوكِ) وَدَوَائِرِ القِطَعِ وَجَمِيعِ المُؤَسَّسَاتِ الَّتِي تَشتَغِلُ بِالرِّبَا فَإِنَّهُ يُنظَرُ، فَإِنْ كَانَ العَمَلُ الَّذِي استُؤجِرُوا لَهُ جُزْءًا مِنْ أعْمَالِ الرِّبَا، سَوَاءٌ نَتَجَ عَنهُ وَحدَهُ الرِّبَا، أمْ نَتَجَ عَنهُ مَعَ غَيرِهِ مِنَ الأعْمَالِ رِبًا، فَإِنَّهُ يَحرُمُ عَلَى المُسلِمِ القِيَامُ بِهَذَا العَمَلِ، وَذَلِكَ كَالمُدِيرِ وَالمُحَاسِبِينَ وَالمُدَقِّقِينَ، وَكُلُّ عَمَلٍ يُؤَدِّي مَنفَعَةً تَتَّصِلُ بِالرِّبَا، سَوَاءٌ أكَانَ اتِّصَالُهَا بِشَكْلٍ مُبَاشَرٍ، أمْ غَيرَ مُبَاشَرٍ.
أمَّا الأعْمَالُ الَّتِي لا تَتَّصِلُ بِالرِّبَا، لا بِشَكْلٍ مُبَاشَرٍ، وَلا غَيرِ مُبَاشَرٍ، كَالبَوَّابِ، وَالحَارِسِ، وَالكَنَّاسِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، لأنَّهُ استِئجَارٌ عَلَى مَنفَعَةٍ مُبَاحَةٍ، وَلأنَّهُ لا يَنطَبِقُ عَلَيهِ مَا يَنطَبِقُ عَلَى كَاتِبِ الرِّبا وَشَاهِدَيهِ.
وَمِثْلُ مُوَظَّفِي المَصَارِفِ مَوَظَّفُو الحُكُومَةِ، الَّذِينَ يَشتَغِلُونَ بِعَمَلِيَّاتِ الرِّبا، مِثْلُ المُوَظَّفِينَ الَّذِينَ يَشتَغِلُونَ فِي تَحضِيرِ القُرُوضِ لِلفَلاحِينَ بِرِبًا، وَمُوَظَّفِي المَالِيَّةِ الَّذِينَ يَعمَلُونَ بِمَا هُوَ مِنْ أعْمَالِ الرِّبا، وَمُوَظَّفِي دَوَائِرِ الأيتَامِ، الَّتِي تُقرِضُ الأموَالَ بِالرِّبا، فَكُلُّهَا وَظَائِفُ مُحَرَّمَةٌ يُعتَبَرُ مَنْ يَشتَغِلُ بِهَا مُرتَكِبًا كَبِيرَةً مِنَ الكَبَائِرِ، لأنَّهُ يَنطَبِقُ عَلَيهِ أنَّهُ كَاتِبٌ لِلرِّبا أو شَاهِدَهُ، وَهَكَذَاكُلُّ عَمَلٍ مِنَ الأعْمَالِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى، يَحرُمُ أنْ يَكُونَ المُسلِمُ فِيهِ أجِيرًا.
أمَّا الأعْمَالُ المُحَرَّمُ رِبْحُهَا، أو الاشتِرَاكُ بِهَا لأنَّهَا بَاطِلَةُ شَرعًا، كَشَرِكَاتِ التَّأمِينِ، وَشَرِكَاتِ المُسَاهَمَةِ، وَالجَمعِيَّاتُ التَّعَاوُنِيَّةُ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ أنْ يُبَاشِرَ العُقُودَ البَاطِلَةَ، أوِ العُقُودَ الفَاسِدَةَ، أوِ الأعْمَالَ المُتَرَتِّبةَ عَلَيهَا، وَلا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُبَاشِرَ عَقْدًا، أو عَمَلاً، يُخَالِفُ الحُكْمَ الشَّرعِيَّ. فَيَحْرُمُ أنْ يَكُونَ أجِيرًا فِيهِ. وَذَلِكَ كَالمُوَظَّفِ الَّذِي يَكتُبُ عُقُودَ التَّأمِينِ، وَلَو لَمْ يَقْبَلْهَا، أو الَّذِي يُفَاوِضُ عَلَى شُرُوطِ التَّأمِينِ، أوِ الَّذِي يَقبَلُ التَّأمِينَ.
وَمِثْلُ المُوَظَّفِ الَّذِي يُوَزِّعُ الأربَاحَ بِحَسَبِ المُشتَرَيَاتِ فِي الجَمْعِيَّاتِ التَّعَاوُنِيَّةِ، وَمِثْلُ المُوَظَّفِ الَّذِي يَبِيعُ أسْهُمَ الشَّرِكَاتِ، أوِ الَّذِي يَشتَغِلُ فِي حِسَابَاتِ السَّنَدَاتِ. وَمِثْلُ المُوَظَّفِ الَّذِي يَقُومُ بِالدِّعَايَةِ لِلجَمعِيَّاتِ التَّعَاوُنِيَّةِ، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ. أمَّا الشَّرِكَاتُ المُنعَقِدَةُ فَجَمِيعُ المُوَظَّفِينَ فِيهَا إِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ مِمَّا يَجُوزُ شَرْعًا أنْ يَقُومُوا بِهِ جَازَ لَهُمْ أنْ يَكُونُوا مُوَظَّفِينَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ العَمَلُ لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يُبَاشِرَهُ هُوَ شَرعًا لِنَفسِهِ، لا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَكُونَ مُوَظَّفًا فِيهِ، لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أجِيرًا فِيهِ. فَمَا حَرُمَ القِيَامُ بِهِ مِنَ الأعْمَالِ حَرُمَ أنْ يُؤَجَّرَ عَلَيهِ، أو أنْ يَكُونَ أجِيرًا فِيهِ.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
يُشتَرَطُ لِصِحَّةِ الإِجَارَةِ أنْ تَكُونَ المَنفَعَةُ مُبَاحَةً.
1. لا تَجُوزُ إِجَارَةُ الأجِيرِ فِيمَا مَنفَعَتُهُ مُحَرَّمَةٌ، فَلا تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى حَمْلِ الخَمْرِ لِمَنْ يَشتَرِيهَا.
2. لا تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أعمَالِ الرِّبَا؛ لأنَّهُ إِجَارَةٌ عَلَى مَنفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ.
3. مُوَظَّفُو المَصَارِفِ وَجَمِيعِ المُؤَسَّسَاتِ الَّتِي تَشتَغِلُ بِالرِّبَا حُكْمُهَا كَالآتِي:
أ- إِنْ كَانَ العَمَلُ الَّذِي استُؤجِرُوا لَهُ جُزْءًا مِنْ أعْمَالِ الرِّبَا، فَإِنَّهُ يَحرُمُ عَلَى المُسلِمِ القِيَامُ بِهِ.
ب- كُلُّ عَمَلٍ يُؤَدِّي مَنفَعَةً تَتَّصِلُ بِالرِّبَا اتِّصَالاً مُبَاشَرًا أمْ غَيرَ مُبَاشَرٍ يَحرُمُ عَلَى المُسلِمِ القِيَامُ بِهِ.
ت- الأعْمَالُ الَّتِي لا تَتَّصِلُ بِالرِّبَا اتِّصَالاً مُبَاشَرًا أمْ غَيرَ مُبَاشَرٍ كَالبَوَّابِ يَجُوزُ لِلمُسلِمِ القِيَامُ بِهِ.
ث- مُوَظَّفُو المَصَارِفِ ومَوَظَّفُو الحُكُومَةِ، الَّذِينَ يَشتَغِلُونَ بِعَمَلِيَّاتِ الرِّبا وَظَائِفُهُمْ مُحَرَّمَةٌ وَيُعتَبَرُونَ مُرتَكِبِينَ لِكَبِيرَةٍ مِنَ الكَبَائِرِ.
ج- كُلُّ عَمَلٍ مِنَ الأعْمَالِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى، يَحرُمُ أنْ يَكُونَ المُسلِمُ أجِيرًا فِيهِ.
4. الأعْمَالُ المُحَرَّمُ رِبْحُهَا، أو الاشتِرَاكُ بِهَا لأنَّهَا بَاطِلَةُ شَرعًا كَشَرِكَاتِ التَّأمِينِ وَشَرِكَاتِ المُسَاهَمَةِ وَالجَمعِيَّاتُ التَّعَاوُنِيَّةُ لا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ أنْ يُبَاشِرَ العُقُودَ البَاطِلَةَ، أوِ العُقُودَ الفَاسِدَةَ.
5. لا يَجُوزُ لِلمُسلِمِ أنْ يُبَاشِرَ عَقْدًا، أو عَمَلاً، يُخَالِفُ الحُكْمَ الشَّرعِيَّ.
6. الشَّرِكَاتُ المُنعَقِدَةُ إِنْ كَانَ عَمَلُ المُوَظَّفِينَ مِمَّا يَجُوزُ شَرْعًا أنْ يَقُومُوا بِهِ جَازَ لَهُمْ ذلك.
7. مَا حَرُمَ القِيَامُ بِهِ مِنَ الأعْمَالِ حَرُمَ أنْ يُؤَجَّرَ عَلَيهِ، أو أنْ يَكُونَ أجِيرًا فِيهِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الراشدة الثانية على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.