إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 58)
الإجارة على العبادات والمنافع العامة
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالخَمسِينَ, وَعُنوَانُهَا: “الإِجَارَةُ عَلَى العِبَادَاتِ وَالمَنَافِعِ العَامَّةِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 96) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
“إنَّ تَعرِيفَ الإِجَارَةِ بِأنَّهَا عَقْدٌ عَلَى المَنفَعَةِ بِعِوَضٍ، وَاشْتِرَاطِ كَونِ المَنفَعَةِ مِمَّا يُمكِنُ لِلمُستَأجِرِ استِيفَاؤُهُ يُرشِدُنَا عِندَ تَطبِيقِهِ عَلَى الحَوَادِثِ، إِلَى أنَّ الإِجَارَةَ جَائِزَةٌ عَلَى كُلِّ مَنفَعَةٍ يُمكِنُ لِلمُستَأجِرِ استِيفَاؤُهَا مِنَ الأجِيرِ، سَوَاءٌ أكَانَتْ مَنفَعَةَ الشَّخْصِ كَالخَادِمِ، أمْ مَنفَعَةَ العَمَلِ كَالصَّانِعِ، مَا لَمْ يَرِدْ فِي النَّهْيِ عَنْ تِلْكَ المَنفَعَةِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، لأَنَّ الأَصلَ فِي الأَشيَاءِ الإِبَاحَةُ، وَالمَنفَعَةُ شَيءٌ مِنَ الأَشيَاءِ. وَلا يُقَالُ هُنَا إِنَّ هَذَا عَقْدٌ، أو مُعَامَلَةٌ، وَالأَصلُ فِيهَا التَّقَيُّدُ لا الإِبَاحَةُ، لأَنَّ العَقْدَ هُوَ الإِجَارَةُ وَلَيسَتِ المَنفَعَةُ. أمَّا المَنفَعَةُ فَهِيَ شَيءٌ تَجرِي عَلَيهِ المُعَامَلَةُ، وَيَنْصَبُّ عَلَيهِ العَقْدُ، وَلَيسَتْ هِيَ مُعَامَلَةً أو عَقْداً.
وَعَلَى ذَلِكَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى جَمِيعِ المَنَافِعِ، الَّتِي لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنهَا، سَوَاءٌ أَوَرَدَ نَصٌّ فِي جَوَازِهَا، أمْ لَمْ يَرِدْ. فَيَجُوزُ أنْ يَستَأجِرَ المَرءُ رَجُلاً أوِ امرَأةً، يَكتُبُ لَهُ عَلَى الآلَةِ الكَاتِبَةِ صَحَائِفَ مَعلُومَةً بِأجْرٍ مَعلُومٍ؛ لأنَّ ذَلِكَ إِجَارَةٌ عَلَى مَنفَعَةٍ لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنهَا، فَتَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَيهَا وَلَو لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي جَوَازِهَا. وَيَجُوزُ استِئْجَارُ كَيَّالٍ وَوَزَّانٍ لِعَمَلٍ مَعلُومٍ، فِي مُدَّةٍ مَعلُومَةٍ، لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سُوَيدِ بنِ قَيسٍ، جَاءَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي، فَسَاوَمَنَا وَبِعْنَاهُ، وَثَمَّ رَجُلٌ يَزِنُ بِالأجْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «زِنْ وَأرْجِحْ». رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ. فَهَذِهِ الإِجَارَةُ جَائِزَةٌ إِذْ قَد وَرَدَ نَصٌّ بِجَوَازِهَا.
أمَّا العِبَادَاتُ، سَوَاءً أكَانَتْ فَرْضًا، أمْ نَفْلاً، فَإِنَّهُ يُنظَرُ فِيهَا فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فَاعِلَهُ، كَحَجِّهِ عَنْ نَفسِهِ، وَأدَاءِ زَكَاةِ نَفسِهِ، فَلا يَجُوزُ أخْذُ الأُجرَةِ عَلَيهَا، لأَنَّ الأجْرَ عِوَضُ الانتِفَاعِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لِغَيرِهِ هَا هُنَا انتِفَاعٌ، فَإِجَارَتُهُ غَيرُ جَائِزَةٍ لِهَذَا السَّبَبِ، لأنَّهَا فَرْضٌ عَلَيهِ. أمَّا إِنْ كَانَتِ العِبَادَةُ مِمَّا يَتَعَدَّى نَفْعُهُ فَاعِلَهُ، فَإِنَّهَا تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَيهَا، وَذَلِكَ كَالأذَانِ لِغَيرِهِ، وَكَإِمَامَتِهِ غَيرَهُ، أو كَاستِئجَارِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ لَهُ، أو مَنْ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ عَنهُ. فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ، لأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى مَنفَعَةٍ بِعِوَضٍ. وَالأجْرُ هُنَا عِوَضُ الانتِفَاعِ، وَقَد حَصَلَ بِغَيرِهِ فَجَازَتِ الإِجَارَةُ. وَأمَّا مَا رَوَى التِّرمِذِيُّ عَنْ عُثمَانَ بنِ أبِي العَاصِ مِنْ أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِليَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنْ أتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لا يَأخُذُ عَلَى أذَانِهِ أجْرًا». فَهَذَا الحَدِيثُ نَهَى الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَنِ اتِّخَاذِ المُؤَذِّنِ الَّذِي يَأخُذُ أجْرًا مُؤَذِّنًا لَهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ أخْذِ المُؤَذِّنِ أجْرًا، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أنَّ هُنَالِكَ مُؤَذِّنِينَ يَأخُذُونَ أجْرًا، وَآخَرِينَ لا يَأخُذُونَ أجْرًا. فَنَهَاهُ عَنِ اتِّخَاذِ المُؤَذِّنِ مِمَّنْ يَأخُذُ أجْرًا. وَنَهيُهُ هَذَا فِيهِ تَنفِيرٌ مِنْ أخْذِ الأجْرِ عَلَى الأَذَانِ، مِمَّا يُشْعِرُ بِكَرَاهَةِ أخْذِ الأُجرَةِ عَلَيهِ، غَيرَ أنَّهُ لا يَدُلُّ عَلَى تَحرِيمِ الإِجَارَةِ عَلَى الأذَانِ, بَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ الكَرَاهَةِ.
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ مُستَمِعِينَا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
1. تَعرِيفُ الإِجَارَةِ: عَرَّفَ الفُقَهَاءُ الإِجَارَةَ بِأنَّهَا عَقْدٌ عَلَى المَنفَعَةِ بِعِوَضٍ.
2. الإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عَلَى كُلِّ مَنفَعَةٍ يُمكِنُ لِلمُستَأجِرِ استِيفَاؤُهَا مِنَ الأجِيرِ, مَا لَمْ يَرِدْ فِي النَّهْيِ عَنْ تِلْكَ المَنفَعَةِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ.
3. المَنفَعَةُ نَوعَانِ اثنَانِ:
أ- مَنفَعَةُ الشَّخْصِ كَالخَادِمِ: مِثلُ أنْ يَستَأْجِرَ المُستَأْجِرُ مُعَلِّمًا يُعَلِّمُ أبنَاءَهُ.
ب- مَنفَعَةُ العَمَلِ كَالصَّانِعِ: مِثلُ أنْ يَستَأْجِرَ المُستَأْجِرُ نَجَّارًا يَصنَعُ لَهُ أثاثًا لِبَيتِهِ.
4. المَنفَعَةُ شَيءٌ تَجرِي عَلَيهِ المُعَامَلَةُ، وَيَنْصَبُّ عَلَيهِ العَقْدُ، وَلَيسَتْ هِيَ مُعَامَلَةً أو عَقْداً.
5. تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى جَمِيعِ المَنَافِعِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنهَا سَوَاءٌ أَوَرَدَ نَصٌّ فِي جَوَازِهَا أمْ لَمْ يَرِدْ.
أ- الإِجَارَةُ الجَائِزَةُ عَلَى مَنَافِعَ لَمْ يَرِدْ نَهْيٌ عَنهَا, وَلَو لَمْ يَرِدْ نَصٌّ فِي جَوَازِهَا, كَأنْ يَستَأجِرَ المَرءُ رَجُلاً أوِ امرَأةً يَكتُبُ لَهُ عَلَى الآلَةِ الكَاتِبَةِ صَحَائِفَ مَعلُومَةً بِأجْرٍ مَعلُومٍ.
ب- الإِجَارَةُ الجَائِزَةُ عَلَى مَنَافِعَ وَرَدَ نَصٌّ بِجَوَازِهَا, كَاستِئْجَارِ كَيَّالٍ وَوَزَّانٍ لِعَمَلٍ مَعلُومٍ فِي مُدَّةٍ مَعلُومَةٍ. لِمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سُوَيدٍ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ قَولُ النَّبِيُّ عَلَيهِ السَّلامُ: «زِنْ وَأرْجِحْ».
6. الإِجَارَةُ عَلَى العِبَادَاتِ نَوعَانِ أحَدُهُمَا جَائِزٌ, وَالثَّانِي لا يَجُوزُ:
أ- العِبَادَةُ الَّتِي يَتَعَدَّى نَفْعُهَا فَاعِلَهَا, تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَيهَا، كَالأذَانِ لِغَيرِهِ, وَكَإِمَامَتِهِ غَيرَهُ، أو كَاستِئجَارِ مَنْ يَحُجُّ عَنْ مَيِّتٍ لَهُ.
ب- العِبَادَةُ الَّتِي لا يَتَعَدَّى نَفْعُهُا فَاعِلَهَا, لا يَجُوزُ أخْذُ الأُجرَةِ عَلَيهَا، كَحَجِّهِ عَنْ نَفسِهِ, لأَنَّ الأجْرَ عِوَضُ الانتِفَاعِ، وَلَمْ يَحْصُلِ انتِفَاعٌ لِغَيرِهِ.
7. نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَنِ اتِّخَاذِ مُؤَذِّنٍ لَهُ يَأخُذُ أجْرًا, لا يَدُلُّ عَلَى تَحرِيمِ الإِجَارَةِ عَلَى الأذَانِ, بَلْ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا مَعَ الكَرَاهَةِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الراشدة الثانية على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.