لغة القرآن تشكو خذلان أهلها وغياب دولتها
للغة أهمية كبيرة في حياة الأفراد والدول، فهي وسيلة التواصل والتفاهم والتخاطب بين الأفراد، وهي الأداة التي تحمل بها الأفكار، وتنقل المفاهيم، كما أنها عامل من عوامل وحدة الأمة، ورمز من رموز هويتها التي تميزها عن غيرها من الأمم والشعوب، وهذا القدر من أهمية اللغة مشترك بين بني الإنسان وبين اللغات كافة في كل مكان وزمان، إلا أنَّ اللغة العربية امتازت عن سائرِ لغات البشر بأنها اللغةُ التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون لغة القرآن الكريم، ولغة خاتم النبيين محمد ﷺ، التي بلغ بها رسالة ربه، ليكون رحمة للعالمين ومرسلًا للناس كافة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾، وقال: ﴿إنا جعلناه قرآناً عربياً﴾، وقال: ﴿قرآناً عربياً غير ذي عوج﴾ وبذلك تجاوزت اللغة العربية حدود القبيلة والقوم وارتبطت بالإسلام فكانت لغة عقيدته وشريعته وخطابه إلى جميع البشر. ولذلك كان لا بد لكل مسلم من تعلم العربية، وكلما ازداد فهماً للعربية ازداد فهمه للإسلام، والعكس صحيح.
\n
وقد فهم المسلمون الأوائل هذا الارتباط الوثيق بين اللغة العربية وبين الإسلام، فأقبلوا على تعلمها ودراسة علومها والتأليف فيها، وقد كانوا في الفتوحات يحملون إلى الناس العربية كما يحملون إليهم الإسلام، فكانوا يعلمونهم القرآن والحديث وأحكام الدين ويعلمونهم اللغة العربية أيضاً، وعلى الرغم من عدم فرض اللغة العربية على الشعوب الإسلامية ذات اللغات الأخرى إلا أنها انتشرت بانتشار الإسلام في بلاد الشام والعراق وما وراء النهر من بلاد فارس والهند والسند وأنحاء واسعة من القارة الآسيوية، وانتشرت في قارة أفريقيا أيضاً، فكان تأثير اللغة العربية على وجود باقي اللغات في البلاد المفتوحة قوياً حتى أزالت اللغات الأخرى من الاستعمال العام في شؤون الحياة، ولم تتأثر اللغة العربية بلغات البلاد المفتوحة وثقافتها، وإنما أثرت هي في البلاد التي فتحتها وأضعفت فيها لغتها الأصلية حتى تلاشت في بعضها، وكادت تتلاشى في البعض الآخر، وبقيت وحدها اللغة التي تستعملها الدولة، وهي اللغة الشائعة، وهي لغة الثقافة والعلم والسياسة.
\n
وقد زاد من المكانة الرفيعة التي حظيت بها اللغة العربية لكونها لغة الإسلام، أنها كانت لغة الدولة الأولى في العالم (دولة الخلافة) لمدة 13 قرناً من الزمان، فاللغة تكتسب وزناً ومكانة بين اللغات وعند الناس من قوة دولتها، وقد حظيت اللغة العربية باهتمام كبير من قبل حكام المسلمين، حيث كانوا يستعملونها في رسائلهم ومعاهداتهم الداخلية والخارجية مع حكام وملوك الدول الأخرى، ومن ذلك الرسائل التي أرسلها الرسول ﷺ إلى كل من كسرى ولغته فارسية وقيصر ولغته رومية والنجاشي ولغته حبشية والمقوقس ولغته قبطية، وكذلك اهتموا بتعريب الدواوين والنقود، ووضع أسس الإعجام (للمصحف بالنقاط والشكل)، ووضع علم النحو من قبل أبي الأسود الدؤلي بناء على طلب من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – على أرجح الأقوال -، وقد كان الخلفاء يعقدون المناظرات بين علماء اللغة في مجالسهم، وكانوا يشجعون الشعر والشعراء، ويغدقون عليهم العطايا، فضلا عن إنشائهم لدور العلم من أجل تعليمها، وتعليم باقي العلوم.
\n
ولكن في العصور المتأخرة للدولة الإسلامية ضعف الاهتمام باللغة العربية، فكان ذلك أحد العوامل التي ساعدت على انهيارها، خصوصا مع ما رافق ذلك من غزو فكري وجه ليس فقط للإسلام، بل لأداة فهمه – اللغة العربية، إذ نجح الكافر المستعمر في إبعاد المسلمين عن الاهتمام باللغة، ودراستها، والتعمق فيها، ودرجت اللهجات العامية في بلاد المسلمين، فضعف الفهم للإسلام، وكذلك الاجتهاد، الذي يعتبر الفقه في اللغة شرطه الأساسي.
\n
وبعد أن هدمت الخلافة، نزلت اللغة العربية عن عرشها الذي كانت تتربع عليه لسنوات طوال، وتراجعت عن كونها اللغة الأولى في العالم، ولم تعد لغة العلم والثقافة، وأصبحت تعاني من إعراض أهلها عنها، وإقبالهم على تعلم اللغات الأجنبية، وافتخارهم بإتقانها، وقد أسهمت مناهج التعليم في المدارس والجامعات في بلاد المسلمين خاصة العربية منها في التدهور وضعف الاهتمام الذي وصلت إليه اللغة العربية في هذه الأيام، فبدل أن يتم التركيز على تعليم الطلاب في المرحلة الابتدائية اللغة العربية وأساسياتها، كتعليمهم الحروف وطريقة كتابتها ونطقها بشكل سليم، وكيفية تكوين كلمات وجمل منها …إلخ، أصبحت هذه المدارس تدرس لغة أجنبية إلى جانب العربية لطلاب هذه المرحلة، فصار تركيز الطالب يتوزع بين اللغتين، بل إن بعضهم صار يهتم بإتقان وتعلم أساسيات اللغة الأجنبية، أكثر من اهتمامه بالعربية، وللأسف فقد أصبحنا نرى بعض الأهل يفتخرون بإتقان أبنائهم لغة أجنبية في عمر صغير، ونراهم يحفزونهم على تعلمها، وفي بعض الأحيان يضعونهم في مدارس خاصة أو أجنبية من أجل تعلم اللغات، ولكنهم في المقابل لا يهتمون بتعليم أبنائهم لغة القرآن بطريقة سليمة، ولا يحرصون على إتقانهم لها كما يتقنون اللغات الأجنبية.
\n
هذا ناهيك عن الطريقة المملة التي يتم بها عرض قواعد العربية وعلومها المختلفة سواء في المدارس أو في الجامعات، فتدرس على أنها مادة جامدة لا حيوية فيها، وكذلك فإن المواد التي تدرس للطلاب المتخصصين بها في الجامعات، لا ترقى للمستوى المطلوب، أضف إلى ذلك فرض تدريس العلوم باللغة الأجنبية في الجامعات.
\n
وقد أسهمت وسائل الإعلام أيضاً في إضعاف العربية وإفساد لسان الناطقين بها، حيث تطغى اللهجات العامية على الفصحى في هذه الوسائل، ويستوي في ذلك الإعلام الرسمي وغير الرسمي، حتى إن بعض القنوات الفضائية تقدم نشراتها الإخبارية وبرامجها الحوارية بالعامية.
\n
إن اللغة العربية تحوي قوة ذاتية، تتمثل في أساليبها وخصائصها وميزاتها، وهي لغة قادرة على استيعاب كل التغييرات والتطورات العلمية والتكنولوجيا وإيجاد مصطلحات للتعبير عنها، ولكنها تحتاج إلى من يهتم بها ويوظف ما فيها من خصائص وميزات، وصدق الشاعر إذا يقول:
\n
\n
وَسِعْتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وَغَايَةً | وما ضقت عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ |
فَكَيْفَ أَضِيقُ الْيَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلةٍ | وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْترَعَاتِ |
أَنَا الْبَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ | فَهَلْ سَأَلُوا الْغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي |
\n
\n
\n
وختاماً: فإن اللغة العربية لن ترجع إلى مكانتها اللائقة بها بين اللغات، فتكون أقواها وأكثرها انتشاراً إلا إذا حملتها دولة قوية ذات مبدأ قوي، وهذه الدولة هي دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة القادمة قريباً بإذن الله.
\n
\n
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أختكم: براءة مناصرة
\n
\n