إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 92)
اجتهاد عمر في مسألة منع تقسيم الأرض الخراجية (ج1)
\n
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
\n
أيها المؤمنون:
\n
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة الثانية والتسعين, وعنوانها: \”اجتهاد عمر في مسألة منع تقسيم الأراضي الخراجية\”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة التاسعة والعشرين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
\n
يقول رحمه الله: \”وعلى هذا، فإن رقبة الأرض، في جميع البلاد التي افتتحها الإسلام عنوة، أو صلحا على أن الأرض لنا، تكون ملكا للدولة، وتعتبر أرضا خراجية، سواء أكانت لا تزال تحت يد الأمة الإسلامية، كمصر، والعراق، وتركيا، أم أصبحت تحت يد الكفار، كإسبانيا، وأوكرانيا، والقرم، وألبانيا، والهند، ويوغسلافيا ونحوها\”.
\n
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: قال تعالى: (واعلموا أن ما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير). (الأنفال 41)
\n
هذه الآية الكريمة توجب قسمة كل غنائم الحرب بين الغانمين الذين شاركوا في الحرب, سواء أكانت عقارا أم مالا منقولا, ومفهومها أن خمس الغنائم لله وللرسول, وأن الأخماس الأربعة الباقية للغانمين, ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ترك العمل بهذه الآية عمدا, ولم يعمل بمقتضاها, ولم يقسم الأرض المغنومة.
\n
فهذه الآية قطعية الثبوت شأنها شأن كل القرآن, فهو ثابت بالتواتر اليقيني الذي لا ريب فيه, ولكنها ليست قطعية الدلالة, ولا يملك فقيه بصير بالقرآن وباللغة ودلالاتها أن يزعم أن الآية تدل دلالة قطعية على أنها تشمل كل ما غنم من أموال منقولة وغير منقولة حتى تشمل العقارات والأرضين والجبال والأنهار؛ لأن حقيقة ما يغنمه الإنسان في الحرب هو ما يحوزه بالفعل ويستولي عليه, وهذا معقول ومشاهد في الكراع والسلاح والثياب والنقود والأدوات ونحوها مما يمكن أخذه وحمله ونقله. بخلاف الأراضي الشاسعة, والسهول الواسعة, والجبال الشامخة, والأنهار العظيمة, فمن ذا الذي يقول: إنه حازها واستولى عليها إلا بضرب من التجوز والتوسع في الاستعمال اللغوي على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة؟! فكأن عمر رضي الله عنه قال للصحابة الذين عارضوه وطلبوا قسمتها عليهم: \”إنكم لم تغنموا هذه الأرض على وجه الحقيقة, فلا دليل لكم في آية الغنيمة؛ لأنها في المنقولات وما شابهها.
\n
وإذا كان عمر لم يخالف نصا قطعيا بتركه العمل بآية توزيع الغنيمة, فهو من باب أولى لم يخالف نصا قطعيا إذ لم يأخذ بالتقسيم النبوي لغنائم خيبر, ويتضح ذلك فيما يأتي:
\n
1. إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يدل بذاته على الوجوب, فلا بد من قرينة أخرى مصاحبة له لا بهذا الفعل وحده؛ وليس فعل النبي براد لفعل عمر, ولكنه صلى الله عليه وسلم اتبع آية من كتاب الله فعمل بها, واتبع عمر آية أخرى فعمل بها, وهما آيتان محكمتان فيما ينال المسلمون من أموال المشركين؛ ولهذا وسع عمر رضي الله عنه ومن وافقه وأشار عليه من فقهاء الصحابة من أمثال علي ومعاذ أن يخالفوه صلى الله عليه وسلم ظاهرا, وإن لم يخالفوه حقيقة.
\n
2. إن كثيرا من التصرفات النبوية تدخل في باب السياسة والإدارة والاقتصاد, وهي تصرفات بوصف الإمامة لا بوصف التبليغ عن الله, أي أنها قرار من قرارات السلطة السياسية أو الإدارية العليا, اتخذه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من باب حسن الرعاية, وهو بهذا يسن للأئمة من بعده أن يتصرفوا بهذه الصفة كما تصرف.
\n
3. إن السنة النبوية ثبت فيها تقسيم الأرض, وترك تقسيم الأرض, وكلاهما سنة متبعة, فقد ثبت في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة ولو في جزء منها على الأقل, ومع هذا لم يقسم أرضها ولا دورها, بل تركها في أيدي أهلها, فعلم جواز الأمرين, فالنتيجة أن قسمة الأرض المفتوحة سنة, وعدم قسمتها سنة أيضا, وهذا لا ينازع فيه منازع, وفيه متسع لاقتداء عمر رضي الله عنه به.
\n
4. يؤكد هذا ما جاءت به بعض الروايات, وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقسم كل أرض خيبر, بل قسم بعضا وترك بعضا لنوائبه وحاجاته باعتباره مسؤولا عن الأمة. فقد ذكر ابن قدامة في المغني أن كلا الأمرين من القسمة وعدمها قد ثبت فيه حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإنه قسم نصف خيبر, ووقف نصفها لنوائبه, وهو ما رواه أبو عبيد في الأموال.
\n
5. ونضيف إلى ذلك كله استناد عمر رضي الله عنه إلى القرآن, فقد احتج بالآية المتعلقة بتوزيع الفيء, وهي الآية العاشرة من سورة الحشر التي وجد فيها ضالته التي ينشدها, وهي قوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم). (الحشر10)
\n
\n
وقبل أن نودعكم مستمعينا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
\n
1. لم يخالف عمر رضي الله عنه نصا قطعيا بتركه العمل بآية توزيع الغنيمة, وهي الآية الحادية والأربعون من سورة الأنفال.
2. لم يخالف عمر رضي الله عنه نصا قطعيا حين لم يأخذ بالتقسيم النبوي لغنائم خيبر.
3. يتضح عدم مخالفة عمر رضي الله عنه للنص القطعي مما يأتي:
\n
1) فعل النبي وحده لا يدل بذاته على الوجوب, فلا بد من قرينة أخرى مصاحبة له.
2) كثير من التصرفات النبوية تدخل في باب السياسة والإدارة والاقتصاد بوصف الإمامة لا بوصف التبليغ عن الله.
3) السنة النبوية ثبت فيها تقسيم الأرض, وترك تقسيم الأرض, وكلاهما سنة متبعة.
4) يؤكد هذا أن الرسول لم يقسم كل أرض خيبر, بل قسم بعضا وترك بعضا لنوائبه وحاجاته باعتباره مسؤولا عن الأمة.
5) استناد عمر رضي الله عنه إلى الآية العاشرة من سورة الحشر التي وجد فيها ضالته التي ينشدها فعمل بما أدى إليه اجتهاده في فهم هذه الآية والتي تعطي للأجيال القادمة حقا في الأراضي التي تفتح عنوة.
\n
أيها المؤمنون:
\n
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, وللحديث بقية, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.