إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي – ح 126
التدليس في البيع
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة السادسة والعشرين بعد المائة, وعنوانها: “التدليس في البيع”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة الرابعة والتسعين بعد المائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: “الأصل في عقد البيع اللزوم، فمتى تم العقد بالإيجاب والقبول بين البائع والمشتري، وانتهى مجلس البيع، فقد لزم عقد البيع ووجب نفاذه على المتبايعين. إلا أنه لما كان عقد المعاملة يجب أن يتم على وجه يرفع المنازعات بين الناس، فقد حرم الشرع على الناس التدليس في البيع، وجعله إثما سواء حصل التدليس من البائع، أو المشتري في السلعة أو العملة، فكله حرام، لأن التدليس قد يحصل من البائع، وقد يحصل من المشتري.
ومعنى تدليس البائع السلعة هو أن يكتم العيب عن المشتري مع علمه به، أو يغطي العيب عنه بما يوهم المشتري عدمه، أو يغطي السلعة بما يظهرها كلها حسنة.
ومعنى تدليس المشتري الثمن هو أن يزيف العملة، أو يكتم ما فيها من زيف مع علمه به. وقد يختلف الثمن باختلاف المبيع لأجل التدليس، وقد يرغب المشتري بالسلعة بسبب التدليس.
فهذا التدليس بجميع أنواعه حرام، لما روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد، فإنه بخير النظرين، بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر”. ولما روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من ابتاع مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن ردها، رد معها صاعا من تمر، لا سمراء” والمراد رد ثمن لبنها الذي حلبه، ولما روى البزار عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أنه نهى عن بيع المحفلات”.
فهذه الأحاديث صريحة في النهي عن تصرية الإبل والغنم، وفي النهي عن بيع المحفلات، وهي التي لم تحلب حتى يظهر ضرعها كبيرا، أو يتوهم أنها حلوب، لأن ذلك خديعة، وأن ذلك حرام. ومثل ذلك كل عمل يغطي العيب، أو يكتم العيب، فإن ذلك كله تدليس يحرم فعله، سواء أكان ذلك في السلعة أم العملة؛ لأنه غبن. ولا يجوز للمسلم أن يغش في السلعة، أو العملة بل يجب عليه أن يبين ما في السلعة من عيب، وعليه أن يوضح ما في العملة من زيف. وأن لا يغش السلعة من أجل أن تروج أو تباع بثمن أغلى، ولا يغش العملة من أجل أن تقبل ثمنا للسلعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهيا جازما.
فقد روى ابن ماجه عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له”. وروى البخاري عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما”. وقال عليه الصلاة والسلام: “ليس منا من غش”. رواه ابن ماجه وأبو داود من طريق أبي هريرة.
ومن حاز شيئا بالتدليس والغش لا يملكه؛ لأنه ليس من وسائل التملك، بل من الوسائل المنهي عنها، وهو مال حرام، ومال سحت. قال عليه الصلاة والسلام: “لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به”. رواه أحمد من طريق جابر بن عبد الله.
وإذا حصل التدليس، سواء أكان بالسلعة أم بالعملة، صار للمدلس عليه الخيار، إما أن يفسخ العقد، أو يمضيه، وليس له غير ذلك. فإذا أراد المشتري إمساك السلعة المعيبة، أو المدلسة، وأخذ الأرش، أي الفرق بين ثمنها من غير عيب، وثمنها بالعيب، فليس له ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له أرشا، وإنما خيره في شيئين: “إن شاء أمسك، وإن شاء ردها” رواه البخاري عن أبي هريرة.
ولا يشترط أن يكون البائع عالما بالتدليس، أو العيب، حتى يثبت الخيار، بل يثبت الخيار للمدلس عليه، بمجرد حصول التدليس، سواء أكان البائع عالما أم غير عالم؛ لأن الأحاديث عامة، ولأن واقع البيع يكون قد حصل على ما نهي عنه، وهذا بخلاف الغبن، فإنه يشترط فيه العلم بالغبن؛ لأنه إن لم يكن عالما، لم يكن الواقع أنه غابن حتى يكون هناك حق للمغبون. كأن ينزل سعر السوق، ويكون البائع غير عالم بذلك، فيبيع ثم يتبين أنه باع بأكثر مما يساوي، فإنه لا يعتبر غبنا، ولا يخير فيه المشتري؛ لأن البائع وهو غير عالم بنزول السعر، لا يصدق عليه أنه غابن”.
وقبل أن نودعكم أحبتنا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
1. عقد البيع: الأصل في عقد البيع اللزوم.
1- متى تم العقد بالإيجاب والقبول وانتهى مجلس البيع، فقد لزم عقد البيع ووجب نفاذه على المتبايعين.
2- يجب أن يتم عقد المعاملة على وجه يرفع المنازعات بين الناس.
2. التدليس في البيع:
1- حرم الشرع على الناس التدليس في البيع، وجعله إثما.
2- التدليس قد يحصل من البائع، وقد يحصل من المشتري.
3- التدليس سواء حصل من البائع في السلعة، أو من المشتري في العملة فكله حرام.
4- معنى تدليس البائع السلعة هو أن يكتم العيب عن المشتري مع علمه به، أو يغطي العيب عنه بما يوهم المشتري عدمه، أو يغطي السلعة بما يظهرها كلها حسنة.
5- معنى تدليس المشتري الثمن هو أن يزيف العملة، أو يكتم ما فيها من زيف مع علمه به.
3. الغبن والخديعة والغش في البيع:
1- وردت أحاديث صريحة في النهي عن تصرية الإبل والغنم، وفي النهي عن بيع المحفلات:
2- المحفلات هي التي لم تحلب حتى يظهر ضرعها كبيرا، أو يتوهم أنها حلوب.
3- بيع المحفلات خلابة أي خديعة, وهو حرام.
4- ومثل ذلك كل عمل يغطي العيب أو يكتمه فهو تدليس يحرم فعله؛ لأنه غبن.
5- لا يجوز للمسلم أن يغش في السلعة، أو العملة بل يجب عليه أن يبين ما في السلعة من عيب. وعليه أن يوضح ما في العملة من زيف. وأن لا يغش السلعة من أجل أن تروج أو تباع بثمن أغلى، ولا يغش العملة من أجل أن تقبل ثمنا للسلعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهيا جازما.
4. بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالبيع:
1- من حاز شيئا بالتدليس والغش لا يملكه؛ لأنه ليس من وسائل التملك.
2- الغش والتدليس من الوسائل المنهي عنها، وهو مال حرام، ومال سحت.
3- إذا حصل التدليس، سواء أكان بالسلعة أم بالعملة، صار للمدلس عليه الخيار بين أمرين:
إما أن يفسخ العقد، أو يمضيه، وليس له غير ذلك.
4- إذا أراد المشتري إمساك السلعة المعيبة، أو المدلسة، وأخذ الأرش، أي الفرق بين ثمنها من غير عيب، وثمنها بالعيب، فليس له ذلك.
5- لا يشترط أن يكون البائع عالما بالتدليس، أو العيب، حتى يثبت الخيار.
6- يثبت الخيار للمدلس عليه، بمجرد حصول التدليس، سواء أكان البائع عالما أم غير عالم.
7- يشترط علم الغابن بالغبن حتى يخير المغبون بين إمساك السلعة وأخذ حقه.
8- إن لم يكن الغابن عالما، لم يكن الواقع أنه غابن حتى يكون هناك حق للمغبون.
9- إن لم يكن الغابن عالما، لا يخير المشتري؛ لأن البائع لا يصدق عليه أنه غابن.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.