إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي (ح 129)
حق التصرف بالإنفاق صلة ونفقة
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة التاسعة والعشرين بعد المائة, وعنوانها: “حق التصرف بالإنفاق صلة ونفقة”. نتأمل فيها ما جاء في الصفحة الثانية بعد المائتين من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
يقول رحمه الله: “ومن حق التصرف الإنفاق. وإنفاق المال هو بذله بلا عوض. أما بذله بعوض فلا يسمى إنفاقا. قال تعالى: (وأنفقوا في سبيل الله). وقال: (ومما رزقناهم ينفقون). وقال: (لينفق ذو سعة من سعته). وقد جرى الإسلام على طريقته، فحدد طرق الإنفاق، ووضع لها ضوابط، ولم يترك صاحب المال مطلق التصرف، ينفق المال كما يشاء، بل حدد كيفية التصرف بماله في حياته، وبعد مماته.
وتصرف الفرد بماله بنقل ملكيته لغيره بلا عوض، إما أن يكون بإعطائه للناس، وإما بإنفاقه على نفسه، وعلى من تجب عليه نفقته. ونفاذ هذا الإنفاق، إما أن يكون حال حياته، كالهبة، والهدية، والصدقة، والنفقة. وإما أن يكون بعد وفاته كالوصية.
وقد تدخل الإسلام في هذا التصرف، فمنع الفرد من أن يهب، أو يهدي للعدو في حالة الحرب ما يتقوى به على المسلمين، ومنعه من أن يتصدق عليه في هذه الحالة. ومنع الفرد من أن يهب، أو يهدي، أو يتصدق، إلا فيما يبقي له ولعياله غنى. فإن أعطى ما لا يبقي لنفسه، وعياله بعده غنى فسخ كله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول”. رواه البخاري عن أبي هريرة.
وروى الدارمي عن جابر بن عبد الله قال: “بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب، أصابها في بعض المغازي (قال أحمد: في بعض المعادن وهو الصواب) فقال: يا رسول الله، خذها مني صدقة، فوالله مالي مال غيرها، فأعرض عنه، ثم جاءه عن ركنه الأيسر فقال مثل ذلك، ثم جاءه من بين يديه فقال مثل ذلك، ثم قال: هاتها، مغضبا، فحذفه بها حذفة لو أصابه لأوجعه، أو عقره، ثم قال: يعمد أحدكم إلى ماله، لا يملك غيره، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس. إنما الصدقة عن ظهر غنى. خذ الذي لك، لا حاجة لنا به، فأخذ الرجل ماله”. والغنى الذي يبقيه الإنسان له ولعياله، هو إبقاء ما يكفيه من الحاجات الضرورية، وهي المأكل، والملبس، والمسكن، والحاجات الكمالية التي تعتبر من لوازم مثله حسب معيشته العادية، أي ما يكفيه بالمعروف بين الناس. ويقدر ذلك بحسب حاجته المعتادة، مع المحافظة على مستوى معيشته التي يعيش عليها هو وعياله، ويعيش عليها أمثاله من الناس.
وأما قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). فليس معناه ولو كان بهم فقر كما يتوهم، بل معناه ولو كان بهم حاجة أكثر مما يسد حاجاتهم الأساسية، بدليل أن الذين فيهم فقر أعطاهم الرسول، ولم يمنع إلا الذين ليس بهم فقر إلى المال. وخصاصة هنا معناها خلة وأصلها خصاص البيت وهي فروجه. فالآية كلها: (ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). أي أن الأنصار لم تتبع نفوسهم ما أعطي المهاجرون، ولم تطمح إلى شيء يحتاج إليه، ولو كانت لديهم حاجة إلى المال لإنفاقه في شؤونهم، لا لسد فقرهم وعوزهم. والمراد من النهي عن الصدقة في قوله عليه السلام: “إنما الصدقة عن ظهر غنى” وقوله: “يعمد أحدكم إلى ماله، لا يملك غيره، فيتصدق به، ثم يقعد يتكفف الناس”.
من حديث واحد رواه الدارمي، هو أن الفقير، الذي لم يشبع حاجاته الأساسية، لا يجوز له أن يتصدق بما هو ضروري له، لسد حاجاته الأساسية، لأن الصدقة إنما تكون عن ظهر غنى، أي عن ظهر استغناء عن الناس في إشباع الحاجات الأساسية. أما الذي لديه مال يزيد عن حاجته الأساسية، وبعد أن أشبع حاجاته الأساسية هذه، يرى أن به حاجة إلى قضاء مصالح تزيد على حاجاته الأساسية، أي إلى حاجات كمالية، فيندب لهذا أن يفضل الفقراء على نفسه: أي يؤثر الفقراء على نفسه، ولو كان في حاجة إلى ماله، ليشبع حاجاته الكمالية”.
وقبل أن نودعكم مستمعينا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
1. حق التصرف بالمال:
1) من حق التصرف الإنفاق.
2) إنفاق المال هو بذله بلا عوض.
3) بذل المال بعوض لا يسمى إنفاقا.
2. جرى الإسلام على طريقته في تشريع التصرف بالمال:
1) حدد طرق الإنفاق.
2) وضع ضوابط لطرق الإنفاق
3) لم يترك صاحب المال مطلق التصرف، ينفق المال كما يشاء.
4) حدد لصاحب المال كيفية التصرف بماله في حياته، وبعد مماته.
3. تصرف الفرد بماله:
1) تصرف الفرد بماله بنقل ملكيته لغيره بلا عوض بإحدى طريقتين:
الأولى: بإعطائه للناس.
الثانية: بإنفاقه على نفسه، وعلى من تجب عليه نفقته.
2) نفاذ هذا الإنفاق له حالتان:
الأولى: في حال حياته، كالهبة، والهدية، والصدقة، والنفقة.
الثانية: بعد وفاته كالوصية.
4. تدخل الإسلام في تصرف الفرد:
1) منع الفرد من أن يهب، أو يهدي للعدو في حالة الحرب ما يتقوى به على المسلمين.
2) منع الفرد من أن يتصدق عليه في هذه الحالة.
3) منع الفرد من أن يهب، أو يهدي، أو يتصدق، إلا فيما يبقي له ولعياله غنى.
4) إن أعطى ما لا يبقي لنفسه، وعياله بعده غنى فسخ كله.
5. الغنى الذي يبقيه الإنسان له ولعياله:
1) إبقاء ما يكفيه من الحاجات الضرورية وهي المأكل، والملبس، والمسكن.
2) إبقاء ما يكفيه من الحاجات الكمالية التي تعتبر من لوازم مثله حسب معيشته العادية.
3) يقدر ما يكفيه بحسب حاجته المعتادة، مع المحافظة على مستوى معيشته التي يعيش عليها هو وعياله، ويعيش عليها أمثاله من الناس.
6. المقصود بقوله تعالى: (ولو كان بهم خصاصة):
1) قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). نزل في الأنصار, وليس معناه ولو كان بهم فقر كما يتوهم.
2) معناه ولو كان بهم حاجة أكثر مما يسد حاجاتهم الأساسية.
3) أي أن الأنصار لم تتبع نفوسهم ما أعطي المهاجرون، ولم تطمح إلى شيء يحتاج إليه، ولو كانت لديهم حاجة إلى المال لإنفاقه في شؤونهم، لا لسد فقرهم وعوزهم.
7. المراد من النهي عن الصدقة إلا عن ظهر غنى:
1) الفقير الذي لم يشبع حاجاته الأساسية، لا يجوز له أن يتصدق بما هو ضروري له.
2) الذي لديه مال يزيد عن حاجته الأساسية، وبعد أن أشبع حاجاته هذه، يندب له أن يفضل الفقراء على نفسه.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.