يقول بعض العلماء بأنّ الرأي العام له طبيعة مائعة، فهو قوة حقيقية شأنها شأن الريح، له ضغط لا تراه ولكنه ذو ثقل عظيم. ولأنّنا نبحث في الرأي العام ودوره في التغيير كان لا بدّ لنا من أن نعرّفه التعريف الصحيح، فالرأي العام هو: “الفكر الذي يسود أجواء الجماعة”، عندها يخضع الجميع لهذا الرأي عن قناعة أو عن غير قناعة فيكسب صفة العموم، ويمتلك قوة التأثير والتسيير.
والرأي العام قديم قدم البشرية، فبتدبر آي القرآن الكريم وما يحتويه من قصص للأنبياء مع أقوامهم بالإضافة إلى كيفية تعاملهم مع زعماء أقوامهم نجد أنّ للرأي العام قوة تأثير كبيرة، فكلاهما (الأنبياء والزعماء) يدرسان كيفية إيجاد رأي عام حول الفكرة التي يطرحانها ويعملان على تغييره وتوجيهه لصالحهما. فقصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون وجمعهم للناس ليكونوا شهداء على التحدي بينهما. وسيرة نبينا محمد r وهو قدوتنا الحسنة وطريقته طريقتنا، نرى أنّه كان يعمل على إيجاد الرأي العام على رسالته السماوية فصدع بدعوته وتحدى الأفكار الجاهلية، بينما كانت قريش تؤلِّب الرأي العام ضده حتى تتغلب على دعوته، وقد نجحت دعوته r في المدينة بعد أن أوجد لها رأياً عاماً فيها.
بقيت الأفكار الإسلامية هي التي تشكل طبيعة الرأي العام، أي طبيعة الفكر الذي يسود المجتمع الإسلامي، على مدى عصور طويلة حتى غاب الإسلام عن الحكم والسُّلطان، وحلّت محلَّه قوى استعمارية استخدمت شتى الوسائل والأساليب لإخضاع الرأي العام الإسلامي لقوانينها ووجهة نظرها في الحياة. ومن بين هذه الوسائل الإعلام والإعلام البديل.
تطوّرت الوسائل والأساليب لإيصال الأحداث العالمية والمحلية إلى الرأي العام، ولإيصال المعلومات المختلفة والمتنوعة (الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية…). في السابق كانت الوسائل لا تعتمد التكنولوجيا، ولكنها ما زالت موجودة كالكتب والمجلات والجرائد، وهي لا تصل إلى كل الناس، فقط من يريد الاطلاع على ما فيها ومن يستطيع دفع ثمنها، وهناك أيضا البيانات والنشرات والتي بمقدور كل الناس أن يقرأها وإن خالفت رأيهم لأنها مجانية… ثم ظهرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وهي وسائل تساعد على إيصال الأحداث عبر الصور المؤثرة وخاصة المرئية منها فهي وسيلة جيدة لإيصال الحدث مع التأثير على أفكار ومفاهيم الرأي العام، وقد تم استخدامها من قبل الدول الاستعمارية لتضليل شعوب البلاد الإسلامية وإدخال المفاهيم والمصطلحات الخاصة بالمبدأ الرأسمالي القائم على المادية النفعية البحتة الذي لا يقيم وزناً لعرف أو دين أو خلق أو مُثل، بل الأساس عنده هو فصل الدين عن الحياة، فكانت هذه الوسائل الإعلامية من وسائل الغزو الاستعماري الثقافي الذي اجتاح المشرق الإسلامي لهدم المجتمعات الإسلامية وجعلها مقلدة عمياء لكل ما يصدِّره لها…
ولا نريد هنا أن نستفيض في عرض خطورة هذه الوسائل بشكل تفصيلي في التأثير على الرأي العام خاصة بعد تطوير وسائل الاتصال، فكانت شبكات التواصل (الفيس بوك، والتويتر) وهي أحدث الوسائل في يومنا هذه، وهي التي سيتمحور حديثنا عنها. وذلك لما تتميز به من سرعة وسهولة إيصال الخبر أو الحدث بشكل مباشر بل وفي لحظة حدوثه ومتابعته لحظة بلحظة. فالمتابع يعيش في قلب الحدث ويستطيع إيصاله لكل المتابعين لديه مع كتابة رأيه الشخصي والتحليل المناسب حسب وجهة نظره المتعلقة بكل مناحي الحياة.
كثيراً ما نرى حملات تم الترويج لها على شبكات التواصل وخاصة على التويتر، وتحمل وسماً (هاشتاغ) معيناً للترويج له ولتسليط الضوء على أمر ما ظهر في ذهن صاحبه. منها ما يكون سطحياً لا قيمة له، ومنها ما لا يعبر عن رأي عالمي بل رأي لا يتعدى عقل صاحبه. ولكن الخطير منها هو الذي يكون القصد منه تضليل المتابعين، أي الرأي العام عن الحقيقة، وهذه من الهاشتاغات التي تتحكم فيها سياسات دولية تهدف لترسيخ مفاهيم لطالما سعت إلى إيجادها بين الرأي العام. ومن هذه السياسات تحويل الرأي العام أي الفكر، من فكر شامل إلى فكر ثانوي، من فكر يبحث في ماهية الأحداث وأسبابها ومسبباتها وما يترتب عليها وما الدافع من قيامها أو إنشائها، إلى فكر بسيط مجرد من البحث والتدقيق. من فكر يؤدي إلى عمل نحو تحقيق غاية واضحة المعالم ألا وهو السعي لتغيير جذري، إلى فكر افتراضي يدور بصاحبه في دائرة الضياع والمتاهة التي لا نهاية لها.
لقد أصبحت هذه المواقع أو شبكات التواصل متنفساً لمشاعر الناس الذين أصبحوا يكتفون بكتابة جملة استنكار أو امتعاض للأحوال التي تمر بها الأمة الإسلامية ليصل الأمر في بعض الأحوال بالاكتفاء بوضع الوجه المعبر عن المشاعر فقط، كوجه الغضب أو الاشمئزاز أو حتى اليأس والفرح. فبعد أن كان الساسة يجيشون الرأي العام ويدفعونهم للنزول إلى الشارع والتظاهر للتنفيس عن الاحتقان الموجود جراء السياسات القمعية أو غياب نوع من أنواع الرعاية الواجب على الدولة تأمينها، أصبحنا نرى اليوم كيف أن هذه المشاعر الجزئية والتي كانت بيد هؤلاء الساسة كيف أنها تحولت إلى تعبيرٍ عبر شبكات التواصل فقط.
إن الدول كافة تسعى لأن يكون الرأي العام إلى جانبها حتى تتمكن من تنفيذ سياستها. ولقد رأينا كيف أن أمريكا كذبت على الرأي العام المحلي والدولي لتبرر شن حربها على العراق حتى تتمكن من استعماره ونهب ثرواته وتدمير قوته، وقد جيشت الإعلام بجميع أنواعه لتكسب الرأي العام إلى جانبها في خوض حربها ضد المسلمين لكي لا تقوم لهم قائمة.
إن المتلقي الواعي والمتتبع للأحداث يجب أن لا يفصل الجزئيات المطروحة عن الأساسيات الغائبة عن الرأي العام عمدا عند ذكر الخبر أو الحدث. ويجب أيضا أن يدرك أن كل كيان مركب من أجزاء مرتبطة بعضها ببعض. وصلاح هذا الكيان أو فساده يتوقف على علاقة الأجزاء ببعضها ومصدرها ألا وهو النظام الذي ينظمها. فمثلا لا نستطيع أن نفصل مشكلة الفقر والتي هي مشكلة جزئية عن النظام الاقتصادي، ولا يمكننا أيضا فصل النظام الاقتصادي عن النظام العام، لأن حل مشاكل المجتمع كلها منوطة به.
وعلى كل من يخوض أيضا في الشأن العام ويأخذ على عاتقه إنهاض المجتمع بالعمل على بناء الرأي العام الصحيح والمنتج أن لا يتناول الأحداث بشكل جزئي ولا يطرحها دون ربطها بأساس المشكلة مع تبيان الحل الصحيح والناجع لها.
يجب علينا أن لا ندع أعداء الإسلام والمسلمين يتحكمون بفكرنا ويتلاعبون بمشاعرنا، لكي لا يسوقونا إلى الذبح بملء إرادتنا، بل يجب أن نقف بالمرصاد لكل المخططات والألاعيب الخبيثة. فبفكرنا نعيد ثرواتنا المنهوبة ونستعيد عزتنا ومكانتنا لنعود أصحاب القرار ولنأخذ دور الفاعل لا دور المفعول به.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رنا مصطفى
2015_11_21_Art_Public_opinion_and_its_role_in_the_change_AR_OK.pdf