المفاوضات بين الأمس واليوم
المفاوضات هي أسلوب يلجأ إليه السياسيون لتسوية قضايا مصيرية لتجنب البلاد والعباد مؤنة القتال والحرب.
وتستند المفاوضات على قوة المفاوض؛ حيث يتمتع بسرعة البديهة وقوة الحجة ورجاحة العقل… ومن خلفه جيوش جرارة وقادة أفذاذ ينتظرون ما تؤول إليه تلك المفاوضات… فإما أن يرجع المفاوض وقد نجح في إمضاء ما يريد مع الجهة الأخرى، وإلا عادت الأمور إلى الحالة الأولى وهو استخدام القوة العسكرية لتحصيل ما لم تفلح المفاوضات في كسبه…
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاوض المشركين باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية… فقد فاوضهم نداً لندٍّ وشرطوا شروطاً… وشرط عليه الصلاة والسلام شروطاً فيما يعرف بصلح الحديبية.. ودخلت قبائل في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت قبائل في حلف قريش.. فلما غدرت قريش وقتلت واعتدت على قبيلة من حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نتيجة ذلك أن جهز جيشاً عظيماً باغت فيه المشركين وفتح مكة!
وهذا رستم عبر القنطرة – أيضًا – يطلب من المسلمين وفدًا للحديث معه (فهو يود الصلح ويبحث عن ثغرة تتم بها المصالحة، أو أية وسيلة أخرى يرجع بها الجيش المسلم دون الدخول معه في حرب)؛ فيخبر زهرة بن الحُوِيَّة سعد بن أبي وقاص بذلك، فيجمع سعد بن أبي وقاص مجلس حربه، ويقول لهم: إنني سأرسل له وفدًا عظيمًا من أصحاب الرأي، كما أرسلت من قبل ليزدجرد؛ ليقيم عليه الحُجَّة، ويدعوه إلى الإسلام. فيقول ربعي بن عامر: إن هؤلاء القوم قوم تباهٍ، وإننا لو فعلنا ذلك يرون أننا قد اعتددنا بهم (أي: جعلنا لهم مكانة عظيمة، وأقمنا لهم الهيبة ونحن خائفون منهم)، ولكني أرى أن ترسل لهم واحدًا فقط؛ فيشعروا أننا غيرُ مهتمين بهم؛ فيوهن ذلك في قلوبهم. فتجادل معه القوم، ولكنه ظل يجادلهم حتى قال سعد: ومن نرسل؟ فقال ربعي: سَرِّحوني. أي: دعوني أذهب إليه أكلمه؛ وعندما وافق سعد وافق بقية القوم، ووقع في قلوبهم الرضا، وذهب ربعي بن عامر ليقابل رستم. وربعي هذا لم يكن من قواد الجيوش الإسلامية، ولكنه سيد في قومه، وانطلق ربعي على فرسه الصغير ذي الذيل القصير، وهذا شيء تُهَانُ به الخيولُ، ويلبس ثيابًا بسيطة جدًا (قديمة ومهلهلة ولكنها نظيفة)، وهذا لباسه منذ أن قدم للقتال؛ فذهب به لمقابلة رستم، ويربط سيفه في وسطه بشيء غنمه من الفُرْسِ، وبالطبع هم يعرفون شكل لباسهم (وفي هذا إذلال لهم كأنه يقول لهم: ما كان في أيديكم بالأمس أصبح اليوم في يدي، وهذا أمر يؤثر في أنفسهم كثيرًا).
ودخل عليهم بهذا المنظر غير المعتاد بالنسبة لهم؛ فدخل بفرسه ووقف على باب خيمة رستم، فطلب منه القوم أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ.
ولما رفض قائد الفرس النزول على شرط ربعي وهو الإسلام أو دفع الجزية للدولة الإسلامية والخضوع لأحكام الإسلام استعان بالله وقاتلهم…
هكذا كانت مفاوضات الأمس مفاوضات حسمٍ وقوةٍ وعزةٍ وبأس.. وهذا غيض من فيض
أما مفاوضات اليوم فهي سراب خادع وهي إملاءات من القوي للضعيف إذ إنه لا معنى لمفاوضاتٍ بين من لا يملك قوةً عسكريةً أو ماديةً مع دولةٍ صاحبة قوةٍ هائِلة…
فها هي منظمة التحرير الفلسطينية تفاوض منذ أكثر من عشرين عاماً كيان يهود… ولم تحصل على شيء ولن تحصل!! حتى أصبح التفاوض مع يهود هدفاً بحد ذاته… وهي في حقيقتها إملاءات وليست مفاوضات…
وما يحصل في سوريا على سبيل المثال (مؤتمر الرياض) حيث تمّ استقدام المعارضة السورية وبعض الحركات والفصائل المقاتلة للتفاوض مع نظام بشار أسد للخروج من الأزمة وتلك المفاوضات تخضع لشروط وإملاءات الدول الكبرى… فهي تحدد من يفاوض والسقف الذي يجب التفاوض عليه… فلا يقبل من يطرح المشروع الإسلامي المتمثل بالخلافة الإسلامية الراشدة على منهاج النبوة…
إن من يريد أن يفاوض يجب أن يكون توجهه ضمن الرؤية الأمريكية للحل لكي يكون بديلاً عن نظام بشار؛ دولةً علمانيةً ديمقراطيةً تعدديةً تحترم الحريات وتعمل على محاربة الإرهاب والتطرف… إذن لا مكان للحركات الإسلامية الجهادية… ولا مكان للثوار الذين يطالبون ويسعون جاهدين لإسقاط النظام وإقامة حكم الإسلام…
وبالتالي فإن كل من يقبل بالتفاوض مع النظام ما هو في الحقيقة إلا دمية في يد الدول الكبرى ليس لهم تأثير يذكر ولا وجود حقيقياً من حاضنة شعبية وجماهيرية، فهم ليسوا إلا خائنين لله ولرسوله ولدماء الشهداء وتضحيات الأمة…
وعليه فإنه يجب على الثوار أن يستمروا بثورتهم وثورة الأمة ولا يلتفتوا لهذه الفخاخ السياسية الخبيثة والملهيات التي تزيد من عُمر النظام… وأن يسيروا سيراً حقيقياً حتى إسقاط هذا النظام المجرم الذي أوغل في القتل وانتهاك الحرمات، ومن ثم إقامة دولةٍ راشدةٍ واضحة المعالم مستندةٍ إلى ثقافة وفكر وموروث هذه الأمة العظيمة… حينها تعود مفاوضات اليوم كما كانت بالأمس مفاوضات حسمٍ وقوةٍ وعزةٍ وبأس.
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رولا إبراهيم – بلاد الشام