إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
(ح 190)
سياسة التجارة الخارجية: السياسة الاكتفائية
الحمد لله الذي شرع للناس أحكام الرشاد, وحذرهم سبل الفساد, والصلاة والسلام على خير هاد, المبعوث رحمة للعباد, الذي جاهد في الله حق الجهاد, وعلى آله وأصحابه الأطهار الأمجاد, الذين طبقوا نظام الإسلام في الحكم والاجتماع والسياسة والاقتصاد, فاجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم يوم يقوم الأشهاد يوم التناد, يوم يقوم الناس لرب العباد.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: نتابع معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, ومع الحلقة التسعين بعد المائة, وعنوانها: “سياسة التجارة الخارجية: السياسة الاكتفائية”. نتأمل في هذه الحلقة الأخيرة ما جاء في الصفحة السادسة عشرة بعد الثلاثمائة من كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للعالم والمفكر السياسي الشيخ تقي الدين النبهاني.
المذهب الرابع: السياسة الاكتفائية:
يقول رحمه الله: “إلا أن الاقتصاديين الغربيين اختلفوا في النظرة إلى التجارة الخارجية، وكانت لهم فيها مذاهب مختلفة، منها المذاهب التالية: حرية المبادلة, والحماية التجارية, والاقتصاد القومي, والسياسة الاكتفائية. ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: في لقاءاتنا الثلاثة السابقة تحدثنا عن المذاهب الثلاثة الأولى, وهي حرية المبادلة, والحماية التجارية, والاقتصاد القومي, وحديثنا في هذا اللقاء الأخير عن المذهب الرابع ألا وهو السياسة الاكتفائية. سائلين المولى تبارك وتعالى أن يتقبل منا هذه السلسلة المباركة بقبول حسن وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم آمين يا رب العالمين. نعود إلى كلام الشيخ تقي الدين, يقول رحمه الله: “يقصد بالسياسة الاكتفائية طموح بلد من البلاد إلى كفاية نفسه بنفسه، وتأليفه وحدة اقتصادية مغلقة تستغني عما سواها، فلا تستورد ولا تصدر. فغايتها تتجاوز سياسة الحماية. وتختلف عن الاقتصاد القومي، وتغاير نظرية حرية المبادلة. والسياسة الاكتفائية التي طبقت بين الحربين الأخيرتين، قد تجلت بشكلين، أحدهما: الاكتفائية الانعزالية، والثانية: الاكتفائية التوسعية. وكانت ألمانيا النازية نموذج البلاد التي أخذت بالسياسة الاكتفائية، وكانت فيها عبارة عن تدبير ألجأتها إليه السياسة الألمانية الداخلية والخارجية، التي لم تعد تتلاءم مع قواعد المبادلة العالمية. والسياسة الاكتفائية وإن كانت عبارة عن تدابير تستهدف أهدافا سياسية، فإن لها في نظرهم أساسا اقتصاديا للنظام، يتلخص في أن البلد الذي يملك مواد أولية، وكيماوية، وآلات، وأيدي عاملة، يجب أن يستطيع العيش. فالمهم بالأمر هو التنظيم، أما رؤوس المال فتأتي في المقام الثاني. فالحكومة التي تأخذ بالسياسة الاكتفائية تكون قد وضعت لنفسها هدفا سياسيا، أخضعت له التنظيم الاقتصادي والمالي. وحتى تصل السياسة الاكتفائية إلى هدفها، وهو جعل الاقتصاد الأهلي قادرا على كفاية نفسه بنفسه، فلا بد من أن تستعد للاستغناء عن كثير من الحاجات؛ لأن السياسة الاكتفائية تجعل البلد عاجزا عن كفاية جميع الحاجات، والمهم هو أن توفر هذه السياسة من الاقتصاد الأهلي الحاجات الأساسية للفرد وللأمة، وللدولة توفيرا يجعلها سائرة في طريق تصاعدي. ومن هنا، يتحتم على الدولة التي تسير حسب السياسة الاكتفائية، في التجارة الخارجية، أن تعمل بطريقة ما إلى ضم البلاد التي تحتاج إليها لحوز المواد الأولية، أو الأسواق، أو الأيدي العاملة، أو الفنيين، وغير ذلك مما تحتاج إليه. وذلك الضم يكون إما بالاندماج وإما بعقد معاهدات تجارية. أما إلغاء الحدود الاقتصادية فإنه يعني ضم البلاد، أي يعني إلغاء الحدود السياسية، إذ لا يمكن إلغاء الحدود الاقتصادية من غير إلغاء الحدود السياسية. وإذا لم تستطع ضم الأقطار التي تحتاجها لحوز المواد الناقصة لديها، فإنها يجب أن تصبر على عدم إشباع بعض حاجاتها، وتسعى لعدم الاحتياج إلى ما يشبع الحاجات الأساسية، إذ فقدان ما يشبع هذه الحاجات الأساسية لا يمكن الصبر عليه، أما فقدان ما يشبع الحاجات غير الأساسية فيمكن الصبر عليه. هذا هو ملخص السياسة الاكتفائية الانعزالية والتوسعية. فالانعزالية هي التي تكون فيها الحاجات الأساسية متوفرة. والتوسعية في مدى معين تكون بالضم، أو بالمعاهدات، من أجل توفير الحاجات اللازمة، سواء أكانت حاجات أساسية أم كمالية. والناظر في السياسة الاكتفائية لا يجدها معالجة تجارية، ولا معالجة اقتصادية، وإنما هي تدبير وقائي مؤقت لما يعترض الدولة من حصار اقتصادي، أو تجاري. فهي ليست معالجة للعلاقات الخارجية، وإنما هي دفاع عن البلاد، حين تغزى من الخارج بالحصار الاقتصادي والتجاري، فهي داخلة في بحث الأساليب، وليست في بحث الأحكام. ولذلك لا يقال: “ما هو الحكم الشرعي في شأنها؟”. ولا يقال: “إنها تناقض الإسلام أو تخالفه”.
بل هي أسلوب من الأساليب التي تتبع، فتؤخذ هذه السياسة كأسلوب إذا كانت واقعية عملية، أي إذا كان هناك واقع في الحصار، وكان ممكنا الاكتفاء باقتصاديات البلاد، لإشباع الحاجات الأساسية. ولا تؤخذ هذه السياسة إذا كان ليس لها واقع، ولا يمكن الاستغناء عن الحاجات الأساسية للدولة، أو الأمة، أو الأفراد. فهي تدخل في باب رعاية المصالح التي يتولاها الخليفة والتي جعل الشرع له أن يقرر ما يراه مناسبا من الأساليب، وما يرى فيه مصلحة للمسلمين”.
وقبل أن نودعكم مستمعينا الكرام نذكركم بأبرز الأفكار التي تناولها موضوعنا لهذا اليوم:
المذهب الرابع: السياسة الاكتفائية:
المقصود بالسياسة الاكتفائية:
يقصد بالسياسة الاكتفائية طموح بلد من البلاد إلى كفاية نفسه بنفسه، وتأليفه وحدة اقتصادية مغلقة تستغني عما سواها، فلا تستورد ولا تصدر.
اختلاف السياسة الاكتفائية عن باقي المذاهب الاقصادية:
1. غايتها تتجاوز سياسة الحماية.
2. تختلف عن الاقتصاد القومي.
3. تغاير نظرية حرية المبادلة.
شكلا السياسة الاكتفائية:
السياسة الاكتفائية التي طبقت بين الحربين الأخيرتين، قد تجلت بشكلين:
1. السياسة الاكتفائية الانعزالية: هي التي تكون فيها الحاجات الأساسية متوفرة.
2. السياسة الاكتفائية التوسعية: هي التي في مدى معين تكون بالضم، أو بالمعاهدات، من أجل توفير الحاجات اللازمة،
سواء أكانت حاجات أساسية أم كمالية.ألمانيا النازية نموذج للسياسة الاكتفائية:
كانت ألمانيا النازية نموذج البلاد التي أخذت بالسياسة الاكتفائية، وكانت فيها عبارة عن تدبير ألجأتها إليه السياسة الألمانية الداخلية والخارجية، التي لم تعد تتلاءم مع قواعد المبادلة العالمية.
الأساس الاقتصادي لنظام السياسة الاكتفائية:
1. السياسة الاكتفائية وإن كانت عبارة عن تدابير تستهدف أهدافا سياسية، فإن لها في نظرهم أساسا اقتصاديا للنظام.
2. الأساس الاقتصادي لنظام السياسة الاكتفائية يتلخص في أن البلد الذي يملك مواد أولية، وكيماوية، وآلات، وأيدي عاملة، يجب أن يستطيع العيش.
3. المهم بالأمر هو التنظيم، أما رؤوس المال فتأتي في المقام الثاني.
4. الحكومة التي تأخذ بالسياسة الاكتفائية تكون قد وضعت لنفسها هدفا سياسيا، أخضعت له التنظيم الاقتصادي والمالي.
5. حتى تصل السياسة الاكتفائية إلى هدفها، وهو جعل الاقتصاد الأهلي قادرا على كفاية نفسه بنفسه، فلا بد من أن تستعد للاستغناء عن كثير من الحاجات؛ لأن السياسة الاكتفائية تجعل البلد عاجزا عن كفاية جميع الحاجات.
6. المهم هو أن توفر هذه السياسة من الاقتصاد الأهلي الحاجات الأساسية للفرد وللأمة، وللدولة توفيرا يجعلها سائرة في طريق تصاعدي.
7. يتحتم على الدولة التي تسير حسب السياسة الاكتفائية، في التجارة الخارجية، أن تعمل بطريقة ما إلى ضم البلاد التي تحتاج إليها لحوز المواد الأولية، أو الأسواق، أو الأيدي العاملة، أو الفنيين، وغير ذلك مما تحتاج إليه.
8. يكون الضم إما بالاندماج وإما بعقد معاهدات تجارية.
9. إلغاء الحدود الاقتصادية يعني ضم البلاد، أي يعني إلغاء الحدود السياسية.
10. لا يمكن إلغاء الحدود الاقتصادية من غير إلغاء الحدود السياسية.
11. إذا لم تستطع ضم الأقطار التي تحتاجها لحوز المواد الناقصة لديها، فإنها يجب أن تصبر على عدم إشباع بعض حاجاتها، وتسعى لعدم الاحتياج إلى ما يشبع الحاجات الأساسية.
12. فقدان ما يشبع هذه الحاجات الأساسية لا يمكن الصبر عليه، أما فقدان ما يشبع الحاجات غير الأساسية فيمكن الصبر عليه.
خلاصة بحث السياسة الاكتفائية:
1. السياسة الاكتفائية ليست معالجة تجارية، ولا معالجة اقتصادية.
2. السياسة الاكتفائية هي تدبير وقائي مؤقت لما يعترض الدولة من حصار اقتصادي، أو تجاري.
3. السياسة الاكتفائية هي دفاع عن البلاد، حين تغزى من الخارج بالحصار الاقتصادي والتجاري.
4. السياسة الاكتفائية داخلة في بحث الأساليب، وليست في بحث الأحكام.
5. السياسة الاكتفائية أسلوب من الأساليب التي تتبع، فتؤخذ إذا كانت واقعية عملية.
6. السياسة الاكتفائية لا تؤخذ إذا كان ليس لها واقع.
7. السياسة الاكتفائية تدخل في باب رعاية المصالح التي يتولاها الخليفة والتي جعل الشرع له أن يقرر ما يراه مناسبا من الأساليب، وما يرى فيه مصلحة للمسلمين.
أيها المؤمنون:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات, والصلاة والسلام على من جاءنا من ربنا بالهدى والآيات البينات. بهذا إخواننا الكرام وأخواتنا الكريمات نكون قد أنهينا معكم سلسلة حلقات كتابنا إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي, آملا أن نكون قد أوصلنا إليكم الفكرة صافية نقية, مبلورة واضحة, فإن تم لنا ذلك فبتوفيق من الله, نسأله جل في علاه, أن يتقبله منا خالصا لوجهه الكريم, بوصفه صدقة جارية وعلما ينتفع به, وأن يجعله في ميزان أعمالنا, وأن ينفعنا ويرفعنا به وإياكم, وإن قصرنا فمنا ومن الشيطان, نسأل الله له العفو والمغفرة. ونسأله سبحانه أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. نشكركم على حسن استماعكم, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.