مع الحديث الشريف
“التسعير”
نحييكم جميعا أيها الأحبة في كل مكان، في حلقة جديدة من برنامجكم “مع الحديث الشريف” ونبدأ بخير تحية، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
روى الترمذي في سننه قال:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ وَثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ:
“غَلَا السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ: “إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّي وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ” قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
جاء في تحفة الأحوذي:
قَوْلُهُ: (غَلَا السِّعْرُ): بِكَسْرِ السِّينِ وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ نرخ أَيْ اِرْتَفَعَ السِّعْرُ
(سَعِّرْ لَنَا): أَمْرٌ مِنْ التَّسْعِيرِ وَهُوَ أَنْ يَأْمُرَ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ أَوْ كُلُّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرَ أَهْلِ السُّوقِ أَنْ لَا يَبِيعُوا أَمْتِعَتَهُمْ إِلَّا بِسِعْرِ كَذَا فَيَمْنَعَ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ النُّقْصَانِ لِمَصْلَحَةٍ
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ): بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ الْمَكْسُورَةِ قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَيْ إِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرَخِّصُ الْأَشْيَاءَ وَيُغَلِّيهَا فَلَا اِعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ. وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ التَّسْعِيرُ. اِنْتَهَى
(الْقَابِضُ الْبَاسِطُ): أَيْ مُضَيِّقُ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَنْ شَاءَ كَيْفَ شَاءَ وَمُوَسِّعُهُ
(وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلِمَةٍ): قَالَ فِي الْمَجْمَعِ مَصْدَرُ ظَلَمَ وَاسْمُ مَا أُخِذَ مِنْك بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ بِكَسْرِ لَامٍ وَفَتْحِهَا وَقَدْ يُنْكَرُ الْفَتْحُ. اِنْتَهَى
وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا عَلَى تَحْرِيمِ التَّسْعِيرِ وَأَنَّهُ مَظْلِمَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. وَالتَّسْعِيرُ حَجْرٌ عَلَيْهِمْ. وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ نَظَرُهُ فِي مَصْلَحَةِ الْمُشْتَرِي بِرُخْصِ الثَّمَنِ أَوْلَى مِنْ نَظَرِهِ فِي مَصْلَحَةِ الْبَائِعِ بِتَوْفِيرِ الثَّمَنِ وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ وَجَبَ تَمْكِينُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِأَنْفُسِهِمْ وَإِلْزَامِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ أَنْ يَبِيعَ بِمَا لَا يَرْضَى بِهِ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ التَّسْعِيرُ. وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَرُدُّ عَلَيْهِ وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالَةِ الْغَلَاءِ وَلَا حَالَةِ الرُّخْصِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَجْلُوبِ وَغَيْرِهِ وَإِلَى ذَلِكَ مَالَ الْجُمْهُورُ. وَفِي وَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ جَوَازُ التَّسْعِيرِ فِي حَالَةِ الْغَلَاءِ. وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا كَانَ قُوتًا لِلْآدَمِيِّ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ، وَبَيْنَ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْإِدَامَاتِ وَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ.
قَوْلُهُ: (هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ): وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ. قَالَ الْحَافِظُ: وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا اِبْنُ حِبَّانَ. وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبُو دَاوُدَ قَالَ: “جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ: بَلْ اُدْعُوا اللَّهَ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ: بَلْ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ”. قَالَ الْحَافِظُ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ اِبْنِ مَاجَهْ وَالْبَزَّارِ وَالطَّبَرَانِيِّ وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَحَسَّنَهُ الْحَافِظُ وَعَنْ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَزَّارِ نَحْوُهُ وَعَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الصَّغِيرِ، وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ فِي الْكَبِيرِ كَذَا فِي النَّيْلِ.
هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم خير البرية, مَن بشره ربه بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ……يمتنع عن فرض أسعار على التجار – لا لمصلحة البائع ولا لمصلحة المشتري – حتى لا يطلبه أحد في مظلمة, لأن عقد البيع عقد مراضاة لقوله تعالى: “إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ” ولما روى ابن ماجه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنما البيع عن تراض” فلا يصح إلا برضى الطرفين …..وفي فرض الأسعار على أحد الطرفين إكراه له وظلم يستحق مرتكبه العقاب من رب العالمين.
وقد ضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم المثل في الحرص على الاحتراز من ظلم الرعية أو الحيف عليها حين رفض التسعير حتى في أشد الظروف شدة على المسلمين ……فالضرورات لا تبيح المحظورات كما يدعي بعض المتفيقهين. بل لا بد من الوقوف عند حدود الله وعدم تجاوزها حتى من قِبَلِ رأس الدولة, فليس في الإسلام أحد فوق الشرع والقانون ….بل الكل سواء في الخضوع لأحكام الله والتزامها.
فما بال بعض الحكومات في الدول القائمة في عالمنا الإسلامي تسعر للناس وتخالف شرع الله وسنة رسوله الكريم تحت ذريعة رعاية مصالح الناس؟! وهل هم أدرى بمصالح العباد من ربِّ العباد؟! أم إنها التبعية للغرب وانتهاج نهجه في تطبيق النظام الرأسمالي الوضعي الذي يؤسس للظلم والفساد؟! ثم يضطر الدولة للتدخل بسَن القوانين تحت مسميات مختلفة – كالعدالة الاجتماعية والتأميم والتسعير وغيرها من القوانين الترقيعية – للتخفيف من وطأة ذلك الظلم والفساد، ليس حرصاً على العباد بل حرصاً على بقاء ذلك النظام الفاسد البالي. وإلا فليس فئة من الرعية بأحق أن ترعى مصالحها من باقي فئات المجتمع, وليس قانون من هذه القوانين بمخلص الأمة من الظلم والفساد، بل إن القوانين الترقيعية نفسها مثال على الظلم والفساد برعايتها لفئة على حساب فئة. وبشهادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إذ وصف التسعير بأنه مظلمة يحق لأي فرد من الرعية رفعها لقضاء المظالم لإزالتها لو كان للمسلمين دولة ترعاهم ….لكن المسلمين أيتام على مآدب لئام ….لا يرقبون فيهم إلَّاً ولا ذمة, لقد تبعوا الغرب شبراً بشبر وذراعا بذراع, واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير. فآن لكم أيها المسلمون أن تقيلوهم بل تستأصلوهم وتعيدوا الأمر إلى نصابه: خلافة على منهاج النبوة …. يخشى فيها الخليفة من مساءلة العزيز فلا يُقدم على مظلمة ولا يَستحل حرمة.
وإلى حين أن نلقاكم مع حديث نبوي آخر، نترككم في رعاية الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.