جواب سؤال
التطورات السياسية على الساحتين السورية والليبية
السؤال:
من متابعة مجريات الأمور حول الهدنة الأخيرة في سوريا حتى اليوم يبدو أن أمريكا هذه المرة جادة في أمر الهدنة وعقد المفاوضات لإقرار حكومة علمانية في سوريا من المعارضة والنظام، فهل هذا صحيح؟ وهل يعني هذا أن أمريكا صرفت النظر عن فكرة إيجاد العميل البديل للعميل الحالي بشار، وأنها اعتمدت استمرار بشار في الحكم؟
وسؤال آخر إذا سمحت لي وهو: أن الأوضاع في ليبيا كلما اقتربت من الحل عادت لتتعقد من جديد، فقد اتفقوا في الصخيرات، وأقر الاتفاق مشروعية برلمان طبرق وهذا مكسب لطبرق… ومع ذلك فهو يماطل في إعطاء الثقة للحكومة علماً بأن السراج قد أجابهم بتقليل عدد الوزراء من 32 إلى 18وزيراً، فكيف يمكن فهم هذه المماطلة؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب:
لقد سبق أن أصدرنا في 2016/1/19 “جواب سؤال” بعنوان: (آخر مستجدات الأزمة الليبية)، وضَّحنا فيه موضوع المشكلة الليبية… وكذلك أصدرنا عن سوريا نشرة في 2015/12/11 بعنوان: (شرّان مستطيران في قَرَن…) عن مؤتمر الرياض وتشكيل الهيئة التفاوضية، وأصدرنا نشرة أخرى في 2016/2/24 بعنوان: (هدنة أمْن النظام في ميونخ حاكتها أمريكا…) وضَّحنا فيها موضوع الهدنة الحالية والمفاوضات، وكان ذلك مفصلاً، ويمكن أن يفهم منه الجواب، فخارطة الأحداث بقيت في حدود الخط العام الذي بيناه في الإصدارات… ومع ذلك فهذا مزيد بيان وتوضيح… ولكن قبله أوضح فرقاً في الصراع بين سوريا وليبيا:
إن موضوع ليبيا يختلف عن موضوع سوريا، لأن الصراع في سوريا هو بين أمريكا وأحلافها وأشياعها وبين أهل سوريا، وليس بين أمريكا ودولة كبرى أخرى، وذلك لأن روسيا تنفذ مخطط أمريكا بصفقة قذرة ظناً من بوتين أنه بخدمة أمريكا في سوريا ستُهدِّئ عنه مشاكل الحدود الجنوبية لروسيا حول أوكرانيا… وأما أوروبا، فتدور حول أمريكا تعيد ما تقول لتنال منها شيئاً أو بعض شيء! فروسيا وأوروبا يدركان أن النفوذ لأمريكا ولا يطمعان بمزاحمتها النفوذ في سوريا… أي أن الصراع هو بين أمريكا وبين أهل سوريا وكل مسلم صادق من ورائهم.
وأما في ليبيا فالصراع هو على النفوذ بين أمريكا وبين أوروبا، وبخاصة بريطانيا وفرنسا إلى حدٍ ما، ثم شيء من إيطاليا… ولذلك فإن أمريكا مأخوذة إلى حد الذهول مما تراه من صمود أهل سوريا في وجه مخططات أمريكا خلال السنوات الخمس من ثورة سوريا، ولكنها في ليبيا مطمئنة بقوتها في مقابل أوروبا، فتصارعها بشيء من الاطمئنان بهذه القوة تجاه أوروبا…
بعد بيان الفرق هذا فإننا سنذكر مزيد بيان وتوضيح حول ما جاء في السؤال:
أولاً: موضوع سوريا:
أما أن أمريكا جادة في موضوع الهدنة والمفاوضات، فهذا صحيح… وأما أنها صرفت النظر عن البحث عن العميل البديل التالي لبشار العميل الحالي فهذا غير صحيح، فهي في الوقت الذي تجد البديل ستنهي وظيفة بشار كما صنعت مع أشياعه من قبل، وبيان ذلك كما يلي:
لقد وضعت أمريكا كل ثقلها لإيقاف الثورة والقضاء عليها تحت مسميات الهدن ووقف إطلاق النار ووقف الاقتتال ووقف الأعمال العدائية… وعقدت المؤتمرات في جنيف وفينّا والرياض وأصدرت القرارات في مجلس الأمن… هذا عدا عملها لإجهاض الثورة بالأعمال العسكرية من قبل عميلها بشار وإيران وحزبها في لبنان وروسيا مع قيام أمريكا ذاتياً بالتدخل وجرها للدول معها تحت غطاء التحالف الدولي بذريعة محاربة تنظيم الدولة والإرهاب… وأخيراً وجدت متنفساً لها باجتماع ميونخ يوم 2016/2/12 في محاولة لوقف الثورة خلال أسبوع بوقف إطلاق النار، وعندما لم يتم ذلك، اجتمع وزير خارجيتها كيري مع نظيره الروسي لافروف يوم 2016/2/22 وأعلنا في بيان مشترك بأن وقف القتال سيدخل حيز التنفيذ عند منتصف ليلة الجمعة/السبت 2016/2/27، وكل ذلك مقدمة لإقرار مشروعها العلماني في المفاوضات التي تُعدُّ لها بجد في جنيف خلال الأيام القادمة… والدليل على أن أمريكا جادة هو ما اتخذته من إجراءات تصب في هذا الاتجاه وبخاصة منذ يومي 9، 2015/12/10 حيث كان مؤتمر الرياض لإعداد تشكيل هيئة المعارضة للمفاوضات مع النظام، ومن هذه الإجراءات:
1- تهيئة أمريكا لحاضنة في الداخل السوري بتأثير أتباعها “تركيا والسعودية” بإيجاد أجواء مشجعة للتفاوض دون اعتراض، ومؤشرات ذلك:
أ- أوكلت للسعودية جمع الأتباع والأشياع في الرياض وبخاصة من الفصائل المسلحة وتشكيل هيئة التفاوض بأسلوب الجزرة والعصا الغليظة بالمال والسلاح… ونجحت في ذلك وشكلت تلك الهيئة ممن باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم… وهكذا استطاعت أمريكا ولأول مرة منذ اندلاع الثورة السورية أن تُدخل في لجان التفاوض فصائل مسلحة تقبل التفاوض لتشترك مع النظام في حكم واحد (وفي مؤتمر صحفي عقده مساء الخميس، قال رئيس مركز الخليج للأبحاث عبد العزيز الصقر إن وفدا من المعارضة سيلتقي بوفد من النظام في الأيام العشرة الأولى من كانون الثاني/يناير المقبل… وينص الاتفاق على تشكيل الهيئة العليا من 32 عضوا، بينهم عشرة للفصائل وتسعة للائتلاف وخمسة لهيئة التنسيق وثمانية مستقلين.) (الجزيرة نت 2015/12/11م)، وكان المفاوضون من قبل من سكان الخارج الذين لا مأوى لهم في الداخل… ولذلك فإن تلك الفصائل التي دخلت الهيئة قد خذلت الناس وبخاصة أولئك الذين كانوا يؤيدونها لأنهم كانوا يظنونها قامت لتخليصهم من ذلك الطاغية!
ب- زيارة إردوغان للسعودية والتداول في موضوع الهدنة والمفاوضات لتنفيذ المشروع الأمريكي في سوريا وإقناع فصائلهم في سوريا بالموافقة على الهدنة وتشكيل هيئة من المعارضة تشارك في التفاوض: (وصل الرئيس التركي إردوغان الثلاثاء إلى السعودية، في زيارة يبحث خلالها مع المسؤولين ملفات المنطقة خصوصاً سوريا واليمن. وبعيد وصوله إلى مطار الملك خالد الدولي في الرياض، انتقل إردوغان إلى قصر اليمامة حيث كان في استقباله العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، بحسب ما أفادت وكالة الأنباء السعودية الرسمية.( (القدس 2015/12/29م).
ج- عقدت أمريكا اجتماعات تمهيدية للمفاوضين لترويضهم على ما تنوي القيام به من حلول حتى إذا توقعت أن الأمور تسير كما تريد ختمت الطوق بالتقارب المتسارع على غير نسق بين تركيا وإيران فكانت زيارة أوغلو إلى إيران رغم التصريحات الساخنة بينهما وذلك للتنسيق بينهما باستعمال تأثيرهما على فصائلهما وأتباعهما في سوريا لتنفيذ المشروع الأمريكي في سوريا… (وصل رئيس الوزراء التركي، أحمد داوود أوغلو، ليل الجمعة 4 آذار/مارس، إلى العاصمة الإيرانية طهران على رأس وفد يضم عدة وزراء، في أول زيارة لرئيس وزراء تركي إلى إيران منذ عامين… وذكرت وكالة “فارس” الإيرانية أن رئيس الوزراء التركي سيجتمع مع كبار المسؤولين الإيرانيين لبحث سبل تنمية وترسيخ التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين…) (روسيا اليوم 2016/3/4م)، ويبدو أنهم غلَّفوا الزيارة بنكتة سمجة لا تنطلي حتى على بسطاء الناس فأظهروا أن اللقاء هو لأغراض تجارية!!
2- خلال تلك الأعمال السياسية الخبيثة من عملائها لتهيئة الأجواء الإقليمية والداخلية للتفاوض كانت تقوم بإيجاد أجواء ضاغطة لتنفيذ المشروع الأمريكي بأعمال تتراوح من تزييف الحقائق لإظهار أن الحل التفاوضي المعروض من أمريكا هو الحل الأفضل لسوريا… إلى أعمال عسكرية منها، أو من روسيا التي تسير معها في صفقة قذرة، أو من أتباعها وأدواتها الإقليمية والمحلية… ومن هذه الأعمال:
أ- عملت أمريكا على تركيز فكرة أن أهل سوريا بين خيارين، إما الموافقة على مشروع أمريكا العلماني لسوريا خلال المفاوضات، وإما تقسيم سوريا… ولأنها تدرك أن أهل سوريا ينفرون من التقسيم فقد ظنت أنهم سيُقبلون على التفاوض لإقرار مشروعها العلماني في سوريا بتشكيل حكم مشترك بين النظام والمعارضة… وحتى تجعل أمريكا مصداقية لهذه الفكرة، فقد قامت أمريكا وروسيا بتصريحات حول التقسيم ضاغطة على المفاوضات تخيف المفاوضين وتوجد أجواء شديدة السخونة على أهل سوريا بأنه إذا لم يوافق أهل سوريا على مشروع أمريكا لإيجاد دولة علمانية من النظام والمعارضة فإن سوريا لن تبقى موحدة بل ستقسَّم… ولذلك صرح كيري قائلاً: (ربما يفوت الأوان لإبقاء سوريا موحدة إذا انتظرنا فترة طويلة) (رويترز 2016/2/23)… وقد تكلمت روسيا عن الفدرالية في سوريا فصرح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف قائلاً: (إن موسكو تأمل بأن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فدرالية وهو المطلب الذي يطالب به الأكراد) (قناة الحدث 2016/2/29)… كل ذلك للضغط على المفاوضين من المعارضة لإقرار النظام السياسي الذي ستفرضه أمريكا وإلا كان التقسيم… ونسيت أمريكا أو تناست هي وأحلافها أن أهل سوريا كما يرفضون التقسيم فهم يرفضون كذلك مشروع أمريكا العلماني، وهم يَعدّون المشروعين شرين مستطيرين تصوغهما أمريكا، ولن يمرا إلا على خونة الأمة وهم إلى زوال باذن الله…
ب- تكثيف الغارات الروسية خلال المفاوضات كرسالة موجهة للمفاوضين أن يقبلوا بالتفاوض لإقرار مشروع أمريكا، وإلا فالغارات ستكثّف، ولذلك فقد تكثفت الغارات الروسية بشكل لافت للنظر خلال محادثات جنيف3 التي بدأت أول شباط/فبراير 2016م، وكانت تشتد في محاصرة حلب كوسيلة ضغط على المفاوضين…
ج- التلويح بالتهديد المبطن بل المكشوف لكل من يرفض المفاوضات، وفي هذا السياق صرح كيري يوم 2016/2/24: (بأن هناك مناقشة مهمة تجري الآن بشأن خطة بديلة إذا لم ننجح على الطاولة.) (رويترز 2016/2/24)، وكرر الجبير مقولة معلمه قائلاً: (… وإذا ما استطعنا الاستمرار في الهدنة، فهناك خيارات أخرى، مثلما ذكر وزير خارجية أمريكا، هناك خطة ب، إذا اتضح أنه ليس هناك جدية من جانب النظام السوري، أو لدى الحلفاء فالخيار الآخر وارد، وسيكون التركيز عليه) (موقع CNN عربي 2016/2/28).
مما سبق يتبين أن أمريكا جادة فعلاً في موضوع الهدنة والمفاوضات لتحقيق مشروعها العلماني لسوريا.
ويبدو أن هذه الوسائل نجحت في أن تكون ذريعة ومبرراً لهيئة مفاوضات المعارضة لأن تستمر في التفاوض مع النظام، فقد: (أعلن مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستافان دي ميستورا أمس أن جولة جديدة من المحادثات الهادفة لوقف النزاع في سوريا ستعقد في جنيف من 14 إلى 24 آذار/مارس تحت إشراف المنظمة الدولية…) (الرياض، الخميس 10 آذار/مارس 2016م)، ثم بدأت هيئة المعارضة للمفاوضات بتهيئة الأجواء للموافقة على المفاوضات (قالت الهيئة العليا للمفاوضات التي تمثل فصائل سورية معارضة اليوم الأربعاء التاسع من آذار/مارس 2016 إنها ترى جدول الأعمال المقترح من قبل الأمم المتحدة لمباحثات السلام إيجابيا وإنها لاحظت تراجعا في انتهاكات القوات الحكومية للهدنة في اليوم السابق. وقال سالم المسلط المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات إنها ستتخذ قريبا قرارا نهائيا بشأن المشاركة في المفاوضات المقررة في جنيف.) (ي.أ/ ي.ب “أ ف ب” DW 2016/3/9)، ثم نقل موقع روسيا اليوم في 2016/3/11 (أعلنت الهيئة العليا للمفاوضات “المعارضة السورية” أنها ستشارك في جولة المفاوضات المرتقبة في جنيف الاثنين المقبل…) (موقع روسيا اليوم 2016/3/11).
2- وأما أن أمريكا صرفت النظر عن البحث عن عميل بديل فهذا ليس بصحيح… وذلك لأن بشار قد فقد القدرة على ضمان حكم مستقر في سوريا يستطيع من خلاله خدمة مصالح أمريكا، وإنما تريد أمريكا بقاءه في المرحلة الانتقالية فتستطيع خلالها البحث عن عميل جديد بوجه أقل سواداً من وجه بشار يستطيع خداع الناس فينفذ مصالحها ويبتسم للناس! فأمريكا مهتمة بإيجاد حكم علماني عميل في سوريا يخدم مصالحها كما كان يفعل بشار وأبوه من قبل، وحتى رائحة التقسيم النتنة التي أشاعتها فمن المستبعد أن تعتمدها في سوريا إلا إذا فشلت في إقامة العميل البديل التالي لبشار العميل الحالي… ولذلك فإن ما يهم أمريكا الآن هو وقف إطلاق النار لتعمل بهدوء في تنفيذ مشاريعها بإيجاد حكم علماني من النظام والمعارضة وذلك إلى أن تجد البديل ليحل محل بشار… إن أمريكا تعتبر وقف إطلاق النار هذا والتزام المعارضة به وبخاصة أنها استطاعت إشراك بعض الفصائل المسماة إسلامية في قبول الهدنة والمفاوضات، تعتبر هذا هو أكبر نجاح لها منذ خمس سنوات في مواجهة الثورة ضد نفوذها وعملائها في الشام… وأيضا فقد اعتبرت روسيا ذلك نجاحاً كبيراً وفرصة لتثبيت النظام ولذلك قال مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين لصحيفة كومرزانت تعليقاً على اتفاق ميونخ (إن دمشق على ما آمل تدرك أن هذه فرصة فريدة لسوريا بعد خمس سنوات من الدمار المتواصل.) (فرانس برس 2016/2/19)، وعقب ذلك أعلن بشار أسد استعداده لقبول وقف إطلاق النار.
3- هذه هي حسابات أمريكا وروسيا والأتباع والأشياع… أما حسابات أهل سوريا المخلصين فهي أمر آخر سيصعق مشاريع الكفار والمستعمرين وعملائهم ومن دار في فلكهم، ويرد كيدهم في نحرهم بإذن الله ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾… فإن رجال الشام ليس هم الذين تحلقوا في “إنتركونتيننتال” بالرياض حول المال والضلال ثم شكلوا هيئة المفاوضات… وليس هم خونة الأمة الذين يميلون حيث يميل المال القذر… وليس هم المخادعين الذين يقولون بمفاوضة النظام وفي الوقت نفسه يقولون بأن لا مكان لرأس النظام فإن من لا يقبل له مكاناً لا يفاوض نظامه! وليس هم الذين تُملى عليهم الدولة المدنية العلمانية فينكسون رؤوسهم بالموافقة في الوقت الذي يزعمون فيه أنهم إسلاميون! وليس هم الذين يقولون بديمقراطية التحليل والتحريم بحكم البشر بدلاً من حكم رب البشر، والله أحكم الحاكمين يقول: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾.
إنهم ليسوا أولئك… بل هم أسود الشام الذين تعرفهم الأمة بصدقهم وإخلاصهم ويعرفونها بأنها لا تعدم الخير إلى يوم القيامة… هم الذين صدعوا ويصدعون بقلوبهم وأفواههم “هي لله هي لله”… إنهم الذين يريدون للشام كما يحب لها الله سبحانه ورسوله e أن تكون: «عُقْرُ دَارِ الْإِسْلَامِ بِالشَّامِ» أخرجه الطبراني في الكبير عن سلمة بن نفيل… إنهم الذين يرفضون التقسيم بالقوة نفسها التي يرفضون بها مشاريع أمريكا العلمانية وكل مشاريع الكفار والمنافقين… هم المخلصون الصادقون في أرض الشام، الثابتون على الحق الذي هم عليه، الذين يدركون أن للباطل جولة وللحق جولات، فلا يساومون على دينهم وأمتهم… هم الذين رأوا بأم أعينهم أن ثورتهم هي بحق كاشفة فاضحة، فقد كشفت المتآمرين وفضحت المنافقين، وأصبحوا كلُّهم في العراء سواء، فلا ينخدع بهم إلا غافل ولا يأمن مكرهم إلا جاهل…إنهم المطمئنون بأن مشاريع الكفار سيأتيها فشلها من حيث لا يحتسب أهلها ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾.
ثانياً: موضوع ليبيا:
كما ذكرنا آنفا فإن موضوع ليبيا يختلف عن موضوع سوريا، لأن الصراع في سوريا هو بين أمريكا وأحلافها وأشياعها وبين أهل سوريا، وليس بين أمريكا وبين دولة كبرى أخرى كما هو الحال في ليبيا حيث الصراع فيها هو بين أمريكا وبين أوروبا، وبخاصة بريطانيا وفرنسا إلى حدٍ ما، ثم شيء من إيطاليا، فهو صراع دولي في الأساس حتى وإن تم تسخير أدوات محلية في ذلك…
بعد بيان الفرق هذا فإننا سنذكر مزيد بيان وتوضيح حول ما جاء في السؤال عن ليبيا:
1- يلاحظ على أمريكا أنها لا تركز على الحل السياسي وإنجاحه في ليبيا عكس ما تفعله في سوريا، بل تلوح بالتدخل العسكري وطالبت به في مجلس الأمن وعملت على عرقلة تحقيق الحل السياسي، بل بدأت تشن غارات متفرقة منذ تشرين الثاني/نوفمبر العام الماضي، إذ قالت أنها قتلت أحد المطلوبين لديها، ومن ثم قام حوالي 20 من جنودها بدخول قاعدة ليبية ومن ثم خرجوا منها، ومن ثم جاءت هذه العملية الأخيرة التي نفذتها الطائرات الأمريكية يوم 2016/2/19 فقتلت 49 شخصاً ادعت أنهم ينتمون لتنظيم الدولة الإسلامية، أغلبهم من تونس. وتعد أكبر عملية تقتل فيها أكبر عدد… ويبدو أنها ستستمر بمثل هذه الضربات: (وترأس أوباما الخميس 2016/1/28 اجتماعا لمجلس الأمن القومي خصص لبحث الوضع في ليبيا حيث تخشى الدول الغربية الكبرى من أن يشكل الفراغ الدستوري في ليبيا أرضا خصبة لنمو التنظيم الإرهابي… وقال البيت الأبيض في بيان: “أصدر الرئيس توجيهات لفريق الأمن القومي لمواصلة الجهود لتعزيز الحكومة ودعم الجهود الراهنة لمكافحة الإرهاب في ليبيا والدول الأخرى…”) (ميدل إيست أونلاين 2016/1/29)، وهكذا قررت أمريكا سياسة شن الغارات العسكرية أو التدخل العسكري من دون صدور قرار دولي بحجة التنظيم والإرهاب…
2- وهذا القرار يدل على مدى خطورة الوضع بالنسبة لأمريكا في ليبيا، وهذا ليس سببه تهديدات التنظيم كما يجري إبرازه، وإنما يتخذ ذريعة للتدخل، بل هناك دول كبرى تحول دون بسط أمريكا لنفوذها في ليبيا، ولهذا نرى أمريكا تتصرف وهي غير مهتمة بالاتفاق النهائي الذي وقع في الصخيرات بالمغرب يوم 2015/12/17 ولا تركز على تنفيذه، وجلّ حديثها حول التدخل العسكري في ليبيا ضد ما تطلق عليه الإرهاب، ولو كان هذا الاتفاق في صالحها لحرصت على تطبيقه بكل ما أوتيت من قوة… وجاء كل ذلك بعدما لم تتمكن بواسطة عميلها حفتر منذ عام 2014 من السيطرة وبسط نفوذها في ليبيا وجعل النظام بيدها. ولهذا بدأت تتدخل بشكل مباشر من دون الحصول على قرار دولي من مجلس الأمن حيث عرقلت بريطانيا صدور قرار يجيز التدخل العسكري في ليبيا. ولهذا فإن تطبيق الحل السياسي سوف يبقى يتعرقل.
3- إن أمريكا تتظاهر بقبولها للاتفاق السياسي في الصخيرات في الوقت الذي تعمل على تأخير تنفيذه، ونستطيع أن نؤكد ذلك بتصريح جون برنان مدير المخابرات الأمريكية المركزية يوم 2016/2/25 حيث قال: (إن الولايات المتحدة تنفذ على الأرض سياسة على محورين في ليبيا تبذل في أحدهما مساعي دبلوماسية لجمع الحكومتين المتنافستين مع شن عمليات لمكافحة الإرهاب ضد تنظيم الدولة الذي يتعاظم خطره.) (أ ف ب 2016/2/25)، وقال وزير خارجيتها جون كيري: (عملنا بجد شديد في الأشهر الماضية على وجه الخصوص من أجل تشكيل حكومة في طرابلس. وإذا لم يتمكنوا من الاتفاق ستصبح ليبيا دولة فاشلة.) (رويترز 2016/2/24)، فيدّعي أنه عمل بجد على تشكيل الحكومة! أي بمقاييس أمريكا وإلا أفشلتها، ولأن حكومة الصخيرات لم تكن كذلك عملت على عرقلة تشكيلها بذريعة واهية عن طريق عملائها في برلمان طبرق عندما قالوا إنهم يرفضون تشكيلها من 32 وزيراً، وكان رئيس الحكومة فايز السراج قد ذهب إلى مصر يوم 2016/1/22 والتقى حاكمها عبد الفتاح السيسي في زيارة له دامت 6 أيام، وحاول السراج مراضاة عملاء أمريكا، فأعلن في ختام زيارته استعداده لاختصار عدد الوزراء، وعقب مغادرة السراج للقاهرة حطّ فيها حفتر للاطلاع على النتائج ولتلقي التعليمات بما يجب عليه أن يقوم به، وتأمين مزيد من الدعم له، فيعني ذلك أن أمريكا غير راضية عن تشكيل الحكومة، لأن تشكيلها لم يأت حسب ما تريد… وقام السراج باختصار عدد أعضاء الحكومة فشكلها من 18 وزيراً ومن ثم عرضها على برلمان طبرق يوم 2016/2/23 فرفضها، حتى إن عصابة مسلحة قالوا إنها مجهولة هاجمت أعضاء البرلمان القادمين للتصويت وعملت على منعهم من دخوله، ولم يكتمل النصاب حيث حضر 89 نائباً من أصل 200 نائب عدد أعضاء البرلمان الكامل، ففض رئيس البرلمان الجلسة، فأمريكا بواسطة عصاباتها والنواب التابعين لها تعمل على العرقلة…
4- أما السبب لهذه العرقلة فهو أن غالب الوسط السياسي في ليبيا هو من مخلفات القذافي أي أوروبي الولاء… وأي تشكيلة وزارية ستكون من هذا المقاس كما هو في الوزارة الجديدة، وأمريكا معتمدة على حفتر ونفر من العسكريين حوله وكانت تأمل منه أن ينشئ قواعد له مع وسط سياسي جديد يشارك بالنصيب الأوفر في الحكم ويهيمن عليه ولكنه حتى الآن لم يستطع وليست كل أعماله العسكرية ناجحة بل متعثرة، ولهذا فأمريكا تعرقل الحل السياسي أكبر قدر ممكن تستطيعه بالتدخل العسكري منها، ومن حفتر، ومن أتباعها، إلى أن تتمكن من ضمان حكم يكون لها نصيب الأسد فيه… فالتدخل العسكري هو وسيلتها لتركيز نفوذها السياسي في ليبيا، ويبدو أنها لن تتوقف حتى تحقق مبتغاها.
5- وهذا على عكس أوروبا فهي تعمل على إنجاح الاتفاق وتشكيل الحكومة وإقرارها لأنها ما زالت تسيطر على الوسط السياسي ودلائل ذلك كثيرة، فقد اجتمع الرئيس الفرنسي أولاند مع عميل بريطانيا ملك المغرب محمد السادس في فرنسا يوم 2016/2/17 وتباحثا حول الوضع في ليبيا فأعلنا أنهما يحثان البرلمان الليبي على منح الثقة لحكومة الوفاق الوطنية برئاسة السراج. وقد قام وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند بزيارة الجزائر واجتمع مع وزير خارجيتها رمطان لعمامرة يوم 2016/2/19 وأكد هناك على أن (“التدخل العسكري في ليبيا لا يمثل الحل الأنسب لتسوية الأزمة التي تشهدها البلاد ودعا إلى حل سياسي”، وأيد الوزير الجزائري قول نظيره البريطاني وقال: “لا نعتقد بأن تدخلا عسكريا يُعدُّ الحل لتسوية الأزمة في ليبيا. كل الجهود المبذولة تهدف لتمكين ليبيا من تنصيب حكومة وحدة وطنية ستكون فعالة في كفاحها ضد الإرهاب…” (الخبر الجزائرية 2016/2/19)، فبريطانيا وتسندها فرنسا تستعمل قواها الإقليمية أيضا في إنجاح العملية السياسية وعرقلة التدخل العسكري الذي تروج له أمريكا…
أما ما يسمع من تصريحات عن أعمال عسكرية من بعض الدول الأوروبية فهي من باب الاحتياط حتى لا تخلو الساحة لأمريكا إذا لم يبق مجال إلا التدخل، فقد ذكرت وسائل الإعلام أن بريطانيا أرسلت قوة عسكرية إلى ليبيا، فنقلت بوابة أفريقيا يوم 2016/1/12 عن موقع Socialist Worker” البريطاني” أن (حكومة المحافظين أرسلت 1000 جندي بريطاني إلى ليبيا للدفاع عن حقول النفط التي باتت مهددة مع تقدم قوات تنظيم الدولة. كما توجهت مدمرة تابعة للبحرية الملكية البريطانية إلى سواحل شمال أفريقيا. فيما طلب من القوات الجوية التحضير لضربات جوية ضد أهداف في ليبيا). ونشرت صحيفة لوموند الفرنسية يوم 2016/2/24 بأن (وحدات من القوات الخاصة تشارك في حرب سرية ضد متشددي الدولة الإسلامية في ليبيا)، أي أن فرنسا تستعد للتدخل عندما يلزم ذلك، ولكن بشكل سري وترسل قوات خاصة مع بريطانيا لمنع تفرد أمريكا العسكري هناك، ولم ترد فرنسا فضح ذلك بل بشكل سري لأنها لا تريد أن تجعل التدخل العسكري شيئاً طبيعياً ومشروعاً في ليبيا حاليا، حيث تعمل مع بريطانيا على تنفيذ الاتفاق السياسي وتنفيذ تشكيل الحكومة ودعمها… وحتى عندما كانت أمريكا تحاول إحراج أوروبا بالتدخل العسكري فتصرِّح عن تدخلات من أوروبا من هنا وهناك، كانت تسارع أوروبا إلى نفي تلك التصريحات… (نفى رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينتسي الأحد اعتزام إيطاليا إرسال زهاء 5 آلاف جندي إلى ليبيا، قائلاً إن الظروف غير مواتية لتدخل عسكري في المستعمرة الإيطالية السابقة. وقال رينتسي خلال برنامج حواري تلفزيوني: “ما دمت رئيسا للوزراء لن تذهب إيطاليا إلى ليبيا لغزوها بخمسة آلاف رجل”. وأضاف “إذا كانت هناك حاجة للتدخل فإن إيطاليا لن تتراجع. لكن ليس هذا هو الوضع اليوم. فكرة إرسال خمسة آلاف جندي ليست مطروحة على الطاولة”. وكان رينتسي يرد على السفير الأمريكي في إيطاليا جون فيليب الذي صرح لصحيفة كورييري ديلا سيرا، الجمعة، بأن روما قد ترسل ما يصل إلى خمسة آلاف جندي). (المصدر: وكالات، روسيا اليوم 2016/3/7)… (وقالت إيطاليا إنه يتعين قبل نشر هؤلاء الجنود، الحصول على طلب رسمي من الحكومة الليبية بعد أن تحظى بثقة البرلمان.) (العربية 2016/03/08م )، وهي تغمز من تدخل أمريكا دون انتظار قرار من مجلس الأمن ولا من حكومة شرعية في ليبيا.
وهذا يعني أن الأمور لن تستقر قريبا في ليبيا، ومن غير المتوقع أن تنشأ حكومة ذات شأن في ليبيا تستطيع أن تحفظ أمناً أو توجد استقرارا فأكثر ما يمكن أن يكون هو حكومة ثالثة لا حول لها ولا قوة، وبخاصة أن أمريكا كانت تهوِّن من شأن أي حكومة جديدة تنشأ: (… حذر خبراء من أن توقيع أعضاء في برلماني طرابلس وطبرق، اتفاق تشكيل حكومة وحدة وطنية، لن يسفر إلا عن حكومة ثالثة في البلاد، ما يفاقم حالة التشرذم والفوضى… وأفاد تقرير لمجموعة «صوفان»، وهي مركز أبحاث أمريكي مقره نيويورك، بأنه «إذا تم تشكيل حكومة وحدة وطنية، فمن المحتمل أن تواجه برفض من الفصائل التابعة للحكومتين المتصارعتين لقبول شرعيتها، وحذر التقرير من أن «الحكومة الوليدة ستخوض على الأرجح معركة قبل أن يجف حبر» توقيع اتفاق تشكيلها، حسب صحيفة «جارديان» البريطانية، أمس…) (الشروق: 2015/12/19م ) وهكذا فحتى لو تم تشكيلها فهي لن تكون أكثر من استراحة محارب ومن ثم يَستأنف فيما بعد، والظاهر أن أمريكا لن تتوقف هذه المرة عن العمل حتى يكون لها دور أساس في ليبيا، لأنه لأول مرة يصبح لها عملاء بهذا الشكل، وسنحت لها فرصة للتدخل بذريعة محاربة تنظيم الدولة.
وعليه فلن يكون هناك استقرار في ليبيا حتى تقطع أيدي هذه الدول الاستعمارية عن التدخل، وأهم شيء هو إسقاط أدواتهم المحلية الرخيصة، التي توالي هذه الدولة أو تلك، وهي تباع وتشترى فتهيئ لها التدخل، بل تخدمها فيه وتقاتل عنها بالوكالة! فعلى المخلصين الواعين القيام بالعمل الجاد لإفشال كل أنواع التدخل الأجنبي، وطرد المستعمرين من البلاد، أوروبيين كانوا أو أمريكان، ورفض كل حلولهم ومشاريعهم وإسقاطها وإسقاط عملائهم والعمل على استلام زمام الأمور وإقامة حكم الله في أرضه… وإننا لا نعدم الخير في أهل ليبيا، بلد حفظة القرآن الكريم، فإن فيها من الرجال الصادقين المخلصين من يستطيعون بإذن الله إحباط مشاريع أولئك الحاقدين على الإسلام وأهله، والله القوي العزيز ناصر من ينصره ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُم﴾.