بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الثانية والستون
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو: “الشوق إلى الجنة، واستباق الخيرات”. فإذا أدى العبد ما افترضه الله عليه، وأتبعها بالمندوبات وتقرب إلى الله بالنوافل تقرب الله منه وأحبه. ومن هذه المندوبات والنوافل:
سابع وعشرون: الستر على زلات المطيع الخاصة: بداية نقول: نظرا لحساسية هذا الموضوع, والدقة المتناهية التي ينبغي أن تبذل في فهمه, قد يستغرق البحث فيه خمس أو ست حلقات لأجل توضيحه من خلال الأمثلة التي سنعرضها فبالمثال يتضح المقال كما يقولون.
وفي كل الأحوال فإن المسلم الذي يفعل المعصية إما أن يكون مستترا مستسرا بها محاولا إخفاءها، وإما أن يكون مجاهرا وقحا: فالأول الذي يفعل المعصية مستترا مستسرا بها محاولا إخفاءها يستر عليه لحديث ابن عمر المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “… ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة” وحديث أبي هريرة عند مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة …”.
وحديث عتبة بن عامر عند ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من ستر عورة فكأنما استحيا موءودة في قبرها”.
أما الثاني وهو المجاهر الوقح، فلا مجال لستره لأنه يفضح نفسه، ويكشف ستر الله عنه، وفعله هذا حرام. وهذا هو المفهوم الشرعي للستر, يقول الإمام أحمد رحمه الله: “الناس يحتاجون إلى مداراة، ورفق في الأمر بالمعروف، بلا غلظة، إلا رجلا مباينا، معلنا بالفسق والردى، فيجب عليك نهيه وإعلامه، وفيما يبدو أنه رحمه الله قد قال كلامه بناء على ما ثبت عند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه والمتفق عليه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كل أمتي يعافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه”.
ومع هذا فإنه ينبغي للمسلم أن يصون لسانه عن التحدث بمعاصي المجاهرين، لا من باب سترهم بل من باب خشية إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وصيانة اللسان عن اللغو، إلا أن يكون محذرا من هذا الفاسق المجاهر.
هذا كله إذا كانت الزلة ضررها محصور في فاعلها ولا يتعداه، أما إذا كان الضرر عاما يتعلق بكيان الدولة أو الجماعة أو الأمة، فيجب التبليغ والكشف، لحديث زيد بن أرقم المتفق عليه قال: “كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي أو لعمر فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته… الحديث”. وفي رواية مسلم “… فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك …” وهذا الفعل من عبد الله بن أبي والمقربين منه من المنافقين، كان يستسر به بدليل أنه أنكره عندما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يستفاد من الحديث، فيكون نقل زيد بن أرقم يأخذ صورة التجسس، والممنوع إذا جاز وجب، فيكون النقل في هذه الحالة واجبا، لأن الضرر المتوقع عام.
أجل أيها المؤمنون, هذه هي الجنة أو الجنات التي أعدها الله جل في علاه لعباده المؤمنين, وهذه هي السبل الموصلة إليها, سقناها إليكم بشيء من التفصيل, فشمروا عن ساعد الجد, وكونوا من عباد الله الصالحين المخلصين, وجدوا واجتهدوا في طاعة الله ورسوله, وفي الصبر على المكاره, وتنافسوا في طلبها, فهي غالية وتستحق أن يضحى من أجلها بالغالي والنفيس. ولله در الشاعر حيث قال:
تريديـن إدراك المعالي رخيصـة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي