بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الخامسة والستون
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو: “الشوق إلى الجنة، واستباق الخيرات”. فإذا أدى العبد ما افترضه الله عليه، وأتبعها بالمندوبات وتقرب إلى الله بالنوافل تقرب الله منه وأحبه. ومن هذه المندوبات والنوافل:
سابع وعشرون: الستر على زلات المطيع الخاصة: ثمة عوامل مساعدة على الستر: ولا شك أن المتتبع لهذه العوامل سيجد أنها كثيرة، لكن يمكن تقسيمها من باب التقريب للفهم إلى عاملين أساسيين:
أولا: عوامل راجعة لذات المخطئ: ولعل من أبرز هذه العوامل: التأثير القلبي واستشعار المخطئ لعظم الذنب الذي وقع منه، وظهور شرارة شروط التوبة التي نص عليها أهل العلم عليه، وتنزيلها على واقعه. ويدل على ذلك ما جاء في قصة التي زنت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعرض عنها ولم يفرح بخبرها، ولما أصرت وألحت على النبي صلى الله عليه وسلم تريد تطهير نفسها، فلم يسألها عليه الصلاة والسلام كم مرة فعلت الزنى، بل لم يسألها من هو الذي زنى بك، وتمنى أنها لو استترت بستر الله.
ثانيا: عوامل راجعة لنوع الخطأ: وأما العوامل الداعية للستر والتي ترجع لنوع الخطأ, فإنها ينبغي أن تراعى وأن تكون في الحسبان، بل إن مجريات القضية قد تتغير بتغير تلك الأخطاء واختلافها، فلا يعقل أن ينظر في الستر على مرتكب الكبيرة كما يجب أن ينظر في الستر على مرتكب الصغيرة، ولا يمكن كذلك أن ينظر لمن خطؤه موجب للحد كمن خطؤه لا يوجب الحد، ولا أن نتعامل مع المرأة في الستر كما نتعامل مع الرجل … وهكذا.
ومن هنا لا بد من التنبيه إلى قضية في غاية الأهمية, يغفل عنها كثير من الناس, وهي أن من ارتكب معصية توجب حدا, لا يجب فضحه والتشهير به, وإن كان ذلك جائزا شرعا, ولكن من الأفضل ستره, ومما يدل على أهمية الستر وفضله ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: “لو أخذت سارقا لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت شاربا لأحببت أن يستره الله”.
وأصرح من ذلك وأقوى في الاستدلال ما ورد من فعل المصطفى عليه الصلاة والسلام فقد جاء في حديث أبي أمامة المخرج في الصحيحين قال: “بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد, ونحن قعود معه إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله: إني أصبت حدا فأقمه علي، فسكت عنه، ثم أعاد فقال: يا رسول الله: إني أصبت حدا فأقمه علي، فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلما انصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف، واتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما يرد على الرجل، فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي، قال أبو أمامة: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أرأيت حين خرجت من بيتك، أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء؟”, قال: بلى, يا رسول الله. قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإن الله قد غفر لك حدك، أو قال: ذنبك”.
والمتأمل في الحديث يتجلى له بوضوح عدم رغبة النبي صلى الله عليه وسلم مفاتحة الرجل في ذنبه الذي ارتكبه بل إنه أعرض عنه، ولما انقضت الصلاة لم يبحث عنه, وإنما انصرف ولحق به الرجل، وكل ذلك يدل على التأكيد على أهمية الستر وفضله، فأين من يتأمل هذا الهدي النبوي. بل حتى الشهادة في مثل هذه القضايا ينبغي علينا أن نلاحظ أن ثلاثة أرباع الشهادة التامة فيها، تنقلب ردعا للشاهد, وزجرا له عن التفوه بالشهادة، كي يظل المخطئ في حماية من الستر ونجوة من العقاب. وحسبك أن تعلم أن عدد الشهود ما لم يتكاملوا أربعة, يعدون آثمين متلبسين بجريمة القذف.
أجل أيها المؤمنون, هذه هي الجنة أو الجنات التي أعدها الله جل في علاه لعباده المؤمنين, وهذه هي السبل الموصلة إليها, سقناها إليكم بشيء من التفصيل, فشمروا عن ساعد الجد, وكونوا من عباد الله الصالحين المخلصين, وجدوا واجتهدوا في طاعة الله ورسوله, وفي الصبر على المكاره, وتنافسوا في طلبها, فهي غالية وتستحق أن يضحى من أجلها بالغالي والنفيس. ولله در الشاعر حيث قال:
تهـون علينـا في المعالي نفوسنا ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد أحمد النادي