بسم الله الرحمن الرحيم
تأملات في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”
الحلقة الحادية والثمانون
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: “من مقومات النفسية الإسلامية”. ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق:
هناك أخلاق ذميمة منهي عنها, منها الكذب ويتعلق بمسألة الكذب أمران أولهما التورية والمعاريض وهي أن تطلق لفظا هو ظاهر في معنى, وتريد به معنى آخر يتناوله لكنه بخلاف الظاهر، أو أن تطلق لفظا يحتمل معنيين: أحدهما قريب والآخر بعيد، وتنوي البعيد, ويفهم السامع المعنى القريب المتبادر إلى الذهن أولا, وقد ضربنا عليها خمسة أمثلة من السيرة النبوية, ومثالا آخر مما حصل مع أميرنا المؤسس الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله!
ومن أجل توضيح المسألة أكثر سأضرب مثالين آخرين: سئل أميرنا الحالي عطاء بن خليل “أبو ياسين” حفظه الله ورعاه, وأيده ونصره, وجعل عزة الإسلام والمسلمين على يديه آمين.
سئل عن عمله, فقيل له: ماذا تعمل؟ والسائل كان يعلم أن أميرنا عضو في نقابة المهندسين المدنيين, فأجابه أبو ياسين على الفور: لدي أعمال خاصة بالبناء! فقال السائل مستفسرا: ألك مكتب, ولديك عمال؟ قال أبو ياسين: قلت لك: لدي أعمال خاصة بالبناء, وكفى! فهذه العبارة لها معنيان محتملان: معنى ظاهر قريب لا يريده قائله, ومعنى خفي بعيد هو المقصود: أما المعنى الأول فهو البناء العمراني المعروف الذي فهمه السائل لأول وهلة, وأما المعنى الثاني فهو البناء الفكري, بناء الشخصية الإسلامية, بناء العقلية الإسلامية, بناء النفسية الإسلامية لدى أفراد الكتلة والحزب والأمة, بناء الأجيال, بناء القادة رجال الدولة, وبالتالي بناء الدولة الإسلامية, دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
وتذكرون موقف صديقي أبو بسام رحمه الله تعالى حين سأله المحقق: هل أولادك في حزب التحرير؟ فلم يجبه بـ “نعم” ولا بـ “لا”, وإنما قال له كلاما فهم منه أن أولاده ليسوا في الحزب! قال صديقي: إنني أتمنى أن يكون كل الناس في حزب التحرير! وليس أولادي فحسب. وما كاد المحقق يتم كلامه حتى بادره قائلا: أرأيت كيف أن بيتك خرب؟ فعليك أولا أن تصلح بيتك وأبناءك ثم تتولى إصلاح بيوت الناس وأبنائهم!
وسئل أحد الشباب أثناء التحقيق عن معلومة إذا ذكرت أضرت بالحزب وبشبابه, فأجاب الشاب قائلا: لا أذكر … ففهم المحقق أن الشاب قد نسي المعلومة ولم يعد يتذكرها! بينما قصد الشاب بهذه العبارة أنه يعلم المعلومة لكنه لن يتحدث بها ولن يذكرها له!
أما الأمر الثاني الذي يتعلق بمسألة الكذب فهو ما يجوز من الكذب: يجوز الكذب في الحرب، والإصلاح بين الناس، والإصلاح بين الزوجين، للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها وكانت من المهاجرات الأول اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: “ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمى خيرا”. قال ابن شهاب ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب, والإصلاح بين الناس, وحديث الرجل امرأته, وحديث المرأة زوجها”. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الحرب خدعة” متفق عليه. وعن أسماء بنت يزيد أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: “أيها الناس, ما يحملكم على أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش في النار, كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها, أو رجل كذب في خديعة حرب, أو رجل كذب بين امرأين مسلمين ليصلح بينهما”. رواه أحمد. وقال ابن حجر في الفتح: “واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل، إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له ولها”.
وقال النووي في شرح مسلم: “وأما كذبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم ونحو ذلك، فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له ولها، فهو حرام بإجماع المسلمين”. ومثال ما عليه النفقة الواجبة، فيقول: “لم أجده في السوق”. ومثال ما عليها أن يدعوها للفراش فتقول: إني حائض. ومثال أخذ ما ليس له أخذه من مالها, وينكر أنه أخذه. ومثال أخذها ما ليس لها أخذها من ماله وتنكر أنها أخذته، وهذا فيما هو زائد عن نفقتها وأولادها بالمعروف.
ثانيا: ومن الأخلاق الذميمة إخلاف الوعد: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. متفق عليه. والنفاق هنا نفاق عمل لا نفاق تكذيب، يعني ليس نفاق عقيدة، فهو حرام لا كفر، أما النفاق في العقيدة فهو كفر، والعياذ بالله.
فإذا التزم المسلم بالأخلاق الفاضلة, باعتبارها أحكاما شرعية واجبة الاتباع طاعة لله: امتثالا لأوامره, واجتنابا لنواهيه, فإنه يسمو ويرقى في المرتقى السامي من علي إلى أعلى, ومن شاهق إلى شاهق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي