الصائم مع القرآن والسنة
الصائمُ البعيدُ عن الرياءِ والسُّمْعة
يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا في محكَمِ تنزيلِهِ ذَامّاً المنافقينَ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) فالمنافقونَ يُراؤونَ الناسَ بما يقومونَ به من عملٍ صالحٍ، والرياءُ هو إرادةُ رضى عند القيامِ بِقُرْبَةٍ من القُرُباتِ، ولذلكَ فهو من أعمالِ القلوبِ، وليسَ من أعمالِ الْجَوارِحِ ولا اللسانِ.
وأمّا التسميعُ فهو التحدّثُ للناسِ بالقُرَبِ لنيلِ رضاهم، والفرقُ بينَ الرياءِ والتسميعِ أنَّ الرياءَ مُصاحِبٌ للعملِ، أمّا التسميعُ فيكونُ بعدَ العملِ. والرياءُ لا يعلمُهُ إلا اللهُ سبحانَه، ولا سبيلَ للتحقّقِ منه عندَ الناسِ، حتى الْمُرائي، فإنّه لا يعرفُ الرياءَ من نفسِهِ إلا إذا كانَ مخلصاً، كما قالَ الإمامُ الشافعيُّ رضي الله عنه: (لا يعرفُ الرياءَ إلا مُخْلِصٌ). والتسميعُ قدْ يكونُ بِقُرْبَةٍ قدْ فعلَها في السرِّ، كمنْ قامَ الليلَ وأصبحَ يُحدّثُ الناسَ بذلك، كما يكونُ بقُرْبَةٍ فَعَلَها عَلَناً في مكانٍ فَحدَّثَ بها في مكانٍ آخرَ، كلُّ ذلكَ بقصدِ نيلِ رضى الناسِ.
رَوَى الإمامُ مسلمٌ عن عبدِ الله بنِ عباسٍ رضيَ الله عنهما، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ قال: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ. وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ)
وكلٌّ منَ الرياءِ والتسميعِ حَرامٌ بغيرِ خِلافٍ، وكلُّ من فَعلَ شيئاً منهما وقَعَ في الإِثْمِ، واستحقَّ عذابَ اللهِ عزَّ وجلَّ. رَوى الإمامُ مسلمٌ عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: (إنّّ أولَ الناسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيها؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فيكَ حتى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولكنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيْءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ. ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ وعَلَّمَهُ وَقَرَأَ القُرْآنَ. فَأُتِيَ بِهِ. فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيها؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيْكَ القُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ ولكنَّك تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ. وَقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ. ورَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كُلِّهِ. فَأُتِيَ بِهِ. فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا. قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيها؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فيها إلاّ أنْفَقْتُ فيها لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ. ولكنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ. فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وَجْهِهِ. ثم أُلْقِيَ في النارِ).
والرياءُ مُنافٍ للإخلاصِ في العملِ، ومُحْبِطٌ للعَمَلِ. قالَ سبحانه: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)، وقالَ اللهُ عزَّ مِنْ قائلٍ: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). فأخي الصائمُ:
أَحْكِمْ سَفِيْنَتَكَ فَإِنَّ بَحْرَكَ عَمِيْقٌ
وَخَفِّفْ حِمْلَكَ فَإِنَّ الْعَقَبَةَ كَؤُوْدٌ
وَأَكْثِرْ مِنَ الزَّادِ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعِيْدٌ
وَأَخْلِصِ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيْرٌ
ومنْ أولى منكَ أخي الصائمُ بالبُعْدِ عن الرياءِ، والبُعْدِ عن التسميعِ؟ ومَنْ أولى منكَ بالتزامِ الإخلاصِ في العملِ؟ وأنتَ تقومُ بعملٍ عظيمٍ بينَكَ وبينَ اللهِ تعالى، لا يطَّلِعُ عليه أحدٌ سوى اللهِ تعالى، وهو الصيامُ، فاحْذَرْ، ثمَّ احْذَرْ، ثمَّ احذَرْ أنْ يَدْخلَكَ شيءٌ مِنْ المراءاةِ أو أنْ تذكُرَ عملاً قمتَ به من قبلُ أوْ في مكانٍ آخرَ مُحاوِلاً إظْهارَ نفسِكَ ليرضَى الناسُ عنكَ، فرضوانُ اللهِ سبحانه هو الأحقُّ أنْ يُطْلَبَ ويُبْتَغَى، واللهُ أغْنَى الشركاءِ عنِ الشركِ.