الصائمُ مع القرآن والسنة
الصائمُ الْحَليم
أعَدَّ اللهُ سبحانَه جَنَّةً عَرْضُها السمواتُ والأرضُ للْمُتّقينَ؛ الذين تَعَدَّدَتْ صِفاتُهمُ الْحَسَنةُ؛ ومنها: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فمَدَحَ الحقُّ سبحانَه الذينَ يَكْظِمونَ غَيْظَهم وهم قادرونَ على إنفاذِهِ، ومَدَحَ الذينَ يَعْفُوْنَ عنِ الناسِ، وأتْبَعَ ذلكَ بالإخبارِ عنْ محبَّةِ اللهِ تعالى للْمُحْسنينَ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ هذينِ العمَلَينِ: كَظْمِ الغيظِ، والعفوِ عن الناسِ؛ هما منَ الإحْسانِ.
ومِمَّنْ سارَ بهِ المثلُ في الْحِلْمِ الأحْنَفُ بنُ قيسٍ، فقدْ سُئِلَ: مِمَّنْ تَعلَّمْتَ الْحِلْمَ؟ فقالَ: تَعلَّمْتُ الْحِلْمَ من قيسِ بْنِ عاصمٍ الْمِنْقَرِيِّ، حَضَرْتُهُ يوماً وَهُوَ مُحْتَبٍ، أيْ: مُمْسكاً إحدى يَدَيْهِ بالأخرى خَلْفَ رُكْبَتَيْهِ المرفوعَتَينِ-، فَجاؤوا بابْنٍ له قَتيلٍ وَابْنِ عَمٍّ لَهُ كَتِيْفٍ، أيْ: مَشدودِ الوَثاقِ، فقالوا: إنَّ ابْنَ أخيكَ هذا قَتَلَ ابْنَكَ، فَمَا قَطَعَ حَدِيْثَهُ وَلا حَلَّ حَبْوَتَهُ، بَلِ الْتَفَتَ إلى أَحَدِ بَنِيْهِ فَقالَ له: يُا بُنَيَّ! قُمْ إلى ابْنِ عَمِّكَ فَأَطْلِقْهُ، وإلى أَخِيْكَ فَادْفِنْهُ، وَإلى أُمِّ القَتِيلِ فَأَعْطِهَا مِائَةَ نَاقَةٍ فَإِنَّهَا غَرِيْبَةٌ عَسَاهَا تَسْلُوْ عَنْهُ.
ولعلَّ منْ أحْوَجِ الناسِ إلى الْحِلْمِ الصائمَ، ذلك أنَّ مِنَ الناسِ مَنْ لا يَحتملُ طولَ الجوعِ والعطشِ، فَنَجِدُه سريعَ الغضبِ، ولذلك جاءتْ وصيةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ بأنْ يتذكَّرَ الصائمُ أنَّهُ صائمٌ، ويقولَ إنَّه صائمٌ، لِيَمْنَعَهُ ذلك عن الغضبِ، ويَمنَعَهُ عن مُقابَلَةِ الإساءةِ بمثلِها، وذلك ما رواهُ البخاريُّ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه منْ قولِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: (..وإذا كانَ يومُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّيْ امْرُؤٌ صَائِمٌ…). فلا يكونُ الصيامُ عُذراً لصاحبِهِ إذا أساءَ أو قابَلَ الإساءةَ بمثلِها.
ولرُبَّما قالَ صائمٌ إنّه يَصعُبُ عليهِ أنْ يملِكَ نفسَهُ حينَ صَوْمِهِ ويَمْنَعَها منَ الغَضَبِ، فنقولُ له: إنَّما الْحِلْمُ بالتَّحَلُّم، أيْ: مَنْ عَوّدَ نفسَهُ على الْحِلْمِ فإنّه يصبحُ حليماً، ومَنْ عَوَّدَ نفسَه على الصبْرِ صارَ صَبوراً. فَعلَى المرءِ، والصائمِ بخاصّةٍ، أن يَحْمِلَ نفسَه على الْحِلْمِ، وإمساكِ النفسِ حينَ الغضبِ، بل أنْ يُجْبِرَ نفسَهُ على ذلكَ، فإنَّ سَيِّئَ ذلكَ مكروهٌ، ومُنْعَكِسٌ عليه، ومَعْلومٌ أنّ مَنْ عَوَّدَ نفسَهُ على شيءٍ فإنّه يستسهلُهُ ويسْتَسيغُهُ، قالَ البُوْصِيرِيُّ في قصيدتِهِ التي يَمْدَحُ بها خيرَ الْخَلْقِ صلى الله عليه وسلم:
والنفسُ كالطفلِ؛ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ على حُبِّ الرَّضَاعِ، وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
ولقدْ كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ أحْلَمَ الناسِ، وأَمْلَكَهم لنفسِهِ، وكانَ لا يغضبُ لنفسِهِ، ولكنْ إِنِ انْتُهِكَتْ مَحارِمُ اللهِ تَمَعَّرَ وجْهُهُ غضباً لانتهاك محارمِ الله، وكم أوصى صلى الله عليه وسلمَ صحابتَهُ الكرامَ بقولِه: (لا تغضبْ، لا تغضبْ).
فَمَنْ أولى من الصائمِ بالْحِلْمِ، وكَظمِ الغيظِ، والعفوِ عنِ الناسِ، وهو المأمورُ بذلكَ؟ أيَسْمَحُ لنفسِهِ أنْ تتجاوَزَ حَدَّها في غضَبِها، فيقابلَ إساءةَ الناسِ له بمثلِها؟ أولَيسَ الأولى به أنْ يَجْمَعَ إلى فضيلةِ الصومِ فضيلَةَ العفوِ عن الناسِ، وفضيلةَ كظمِ الغيظِ، وفضيلةَ الصبرِ…؟