بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح15)
ثبوت كون القرآن من عند الله (ج 1)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الخامِسَةَ عَشْرَةَ, وَعُنوَانُهَا: “ثُبُوتُ كَونِ القُرآنِ مِنْ عِندِ اللهِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ العَاشِرَةِ وَالحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: “وأمَّا ثُبُوتُ كَونِ القُرآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَهُوَ أنَّ القُرآنَ كِتَابٌ عَرَبِيٌّ جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. فَهُوَ إمَّا أنْ يَكُونَ مِنَ العَرَبِ وَإمَّا أنْ يَكُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَإِمَّا أنْ يَكُونَ مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَلا يُمكِنُ أنْ يَكُونَ مِنْ غَيرِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤلاءِ الثَّلاثَةِ؛ لأنَّهُ عَرَبِيُّ اللُّغَةِ وَالأسلُوبِ. أمَّا أنَّهُ مِنَ العَرَبِ فَباطِلٌ؛ لأنَّهُ تَحَدَّاهُم أنْ يَأْتوا بمثلِهِ: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ)، وَقَدْ حَاوَلُوا أنْ يَأْتُوا بِمِثلِهِ وَعَجِزُوا عَنْ ذَلِكَ. فَهُوَ إِذَنْ لَيسَ مِنْ كَلامِهِمْ، لِعَجْزِهِمْ عَنِ الإتْيَانِ بِمِثلِهِ مَعَ تَحَدِّيهِ لَهُمْ وَمُحَاوَلَتِهِمُ الإِتيَانَ بِمِثلِهِ. وَأمَّا أَنَّهُ مِنْ مُحَمَّدٍ فَبَاطِلٌ، لأنَّ مُحَمَّدًا عَرَبِيٌ مِنَ العَرَبِ، وَمَهْمَا سَمَا العَبقَرِيُّ فَهُوَ مِنَ البَشَرِ وَوَاحِدٌ مِنْ مُجْتَمَعِهِ وَأُمَّتِهِ، وَمَا دَامَ العَرَبُ لَمْ يَأْتُوا بِمِثلِهِ فَيَصْدُقَ عَلَى مُحَمَّدٍ العَرَبِيِّ أنَّهُ لا يَأتِي بِمِثلِهِ فَهُوَ لَيسَ مِنْهُ، عِلاوةً عَلَى أنَّ لِمُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أحَادِيثَ صَحِيحَةً وأُخْرَى رُوِيَتْ عَنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ الَّذِي يَستَحِيلُ مَعَهُ إِلاَّ الصِّدْقُ، وَإِذَا قُورِنَ أيُّ حَدِيثٍ بِأيَّةِ آيَةٍ لا يُوجَدُ بَيْنَهُمَا تَشَابُهٌ فِي الأُسلُوبِ، وَكَانَ يَتْلُو الآيَةَ المنَزَّلَةَ وَيَقُولُ الحَدِيثَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَبَينَهُمَا اختِلافٌ فِي الأُسلُوبِ، وَكَلامُ الرَّجُلِ مَهْمَا حَاوَلَ أنْ يُنَوِّعَهُ فَإِنَّهُ يَتَشَابَهُ فِي الأُسلُوبِ؛ لأنَّهُ صَادِرٌ مِنهُ. وَبِمَا أنَّهُ لا يُوجَدُ أيُّ تشابُهٍ بَينَ الحَدِيثِ وَالآيَةِ فِي الأُسلُوبِ فَلا يَكُونُ القُرآنُ كَلامَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقَاً، لِلاختِلافِ الوَاضِحِ الصَّرِيحِ بَيْنَهُ وَبَينَ كَلامِ مُحَمَّدٍ. عَلَى أَنَّ العَرَبَ قَدِ ادَّعَوْا أنَّ مُحَمَّدًا يَأتِي بِالقُرآنِ مِنْ غُلامٍ نَصْرَانِيٍ اسمُهُ (جَبْر) فَرَدَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيهِمْ بِقَولِهِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ). وبِمَا أنَّهُ ثبَتَ أنَّ القُرآنَ لَيسَ كَلامَ العَرَبِ، وَلا كَلامَ مُحَمَّدٍ، فَيَكُونَ كَلامَ اللهِ قَطْعًا، وَيَكُونَ مُعجِزةً لِمَن أتَى بِهِ. وَبِمَا أَنَّ مُحَمَّداً هُوَ الَّذِي أَتَى بِالقُرآنِ، وَهُوَ كَلامُ اللهِ وَشَرِيعَتُهُ، ولا يَأْتِي بِشَرِيعَةِ اللهِ إِلاَّ الأنبِيَاءُ وَالرُّسُلُ، فَيَكُونَ مُحَمَّدٌ نَبِيًا وَرَسُولاً قَطْعًا بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ. هَذَا دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ وَبِأنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ”.
ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: القُرآنُ: هُوَ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، المُتَوَاتِرُ في قِرَاءَاتِهِ، الْمَنقُولُ إِلَينا بِالتَّوَاتُرِ مَكتُوباً في الصُّحُفِ بَينَ دَفَّتينِ، الْمُعجِزُ بِطِرَازِ أُسلُوبِهِ، الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ، الْمُنَزَّلُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ بِوَسَاطَةِ الْمَلَكِ الذِي يَنزِلُ بِالوَحْيِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَهُوَ جِبرِيلُ ، الْمَبدُوءُ بِسُورَةِ الفَاتِحَةِ, الْمَختُومُ بِسُورَةِ النَّاسِ.
وَالقُرآنُ هُوَ المُعجِزَةُ الكُبْرَى لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ , تِلْكَ الْمُعجِزَةُ التِي قَامَتْ حُجَّةً عَلَى العَرَبِ وَعَلَى العَجَمِ, بَلْ عَلَى العَالَمِ أَجمَعَ، أَي عَلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَومِ الدِّينِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى صِدقِهِ . وَلَقَدِ اقتَضَتْ إِرَادَةُ اللهِ أَنْ يُرسِلَ الرُّسُلَ إِلَى النَّاسِ؛ لِيُبلِّغُوهُم دِينَهُ، وَالنَّاسُ غَيرُ مُلزَمِينَ بِاتِّباعِ الرُّسُلِ مَا لَم يُقَدِّمُوا دَلِيلاً قَاطِعاً عَلَى نُبُوَّتِهِم؛ كي لَا يَدَّعِي أَحَدٌ أَنَّهُ رَسُولٌ وَهُوَ كَاذِبٌ. وَالدَّلِيلُ الذِي يَأْتي بِهِ الرَّسُولُ لَا بُدَّ أَنْ يكُونَ مُعجِزاً لِلنَّاسِ الذِينَ كُلِّفَ بِإِبلَاغِهِمْ رِسَالَتَهُ، وَمُتَحَدِّياً لَهُم في أَعَزِّ مَا يَستَطِيعُونَ، وَأَكثَرِ شَيءٍ بَرَعُوا فِيهِ.
وَقَد عَلِمْنَا أَنَّ الْمُعجِزَةَ هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلعَادَةِ يُجرِيهِ اللهُ عَلَى يَدِ رَسُولِهِ دَلِيلاً عَلَى صِدْقِهِ. وَالقُرآنُ الكَرِيمُ لَهُ احتِمَالَاتٌ ثَلَاثَةٌ: إِمَّا أَنْ يكُونَ مِنْ عِندِ العَرَبِ، وَإِمَّا أَنْ يكُونَ مِنْ عِندِ العَجَمِ, وَإِمَّا أَنْ يكُونَ مِنْ عِندِ مُحَمَّد ، فإن لم يكن من عند هؤلاء الثلاثة, فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ عِندِ اللهِ. وَبِعِبَارَةٍ أُخرَى: هَلْ يَستَطِيعُ العَرَبُ- وَمُحَمَّدٌ وَاحِدٌ مِنهُم- وَالعَجَمُ وَغَيرُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِ القُرآنِ, فَإِنْ لَم يَفعَلُوا؛ فَهُوَ حَتماً مِنْ عِندِ اللهِ تَعَالَى.
أولا: بطلان كون القرآن من عند العرب:
القُرآنُ كَلامُ اللهِ, وَيَستَحِيلُ أَنْ يَقُولَهُ غَيرُ العَرَبِ؛ لِأَنَّهُ كَلامٌ عَرَبيٌّ مُبِينٌ؛ وَلأَنَّهُ عَرَبِيُّ اللُّغَةِ وَالأُسلُوبِ في أَلفَاظِهِ وَجُمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ). (الشعراء 292- 195) أَمَّا كَونُ القُرآنَ مِنْ عِندِ العَرَبِ فَبَاطِل؛ لأَنَّ العَرَبَ نَطَقُوا بِكَلامٍ مِنهُ الشِّعرُ وَمنِهُ النَّثرُ، وَكَلامُهُمْ مَحفُوظٌ في الكُتُبَ وَمَنقُولٌ عَنهُمُ استِظْهَارَاً، نَقَلَهُ الخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ وَرَوَاهُ بَعضُهُم عَن بَعَض. فَالقُرآنُ إِمَّا أَنْ يكُونَ مِنْ طِرَازِ كَلَامِهِمْ فَيكُونُ قَدْ قَالَهُ عَرَبِيٌّ بَلِيغٌ، وَإِمَّا أَنْ يكُونَ مِنْ غَيرِ طِرَازِ كَلامِهِمْ فَيكُونُ الذِي قَالَهُ غَيرُ العَرَبِ. فَإِنْ قَالُوا مِثلَهُ فَقَدِ استَطَاعُوا أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِهِ، فَيكُونُ كَلَامَ بَشَرٍ مِثلِهِمْ، وَإِنْ عَجِزُوا عَنِ الإِتيَانِ بِمِثلِهِ مَعَ أَنُّه كَلَام عَرَبِيٌّ وَهُمْ فُصَحَاءُ العَرَبِ وَبُلَغَاؤُهُمْ، لَم يَكُنْ كَلَامَ البَشَـر. وَالنَّاظِرُ في القُرآنِ وَفي كَلَامِ العَرَبِ يَجِدْ أَنَّ القُرآنَ طِرَازٌ خَاصُّ مِنَ القَولِ لَم يَسبِقْ لِلعَرَبِ أَنْ قَالُوا مِثلَهُ، وَلَا أَتَوا بِمِثلِ هَذَا النَمَطِ مِنَ القَولِ في شَيءٍ، لَا قَبلَ نُزُولِ القُرآنِ وَلَا بَعدَهُ، حَتَّى لَا تَقلِيداً لَهُ وَلَا مُحَاكَاةً لِأُسلُوبِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ العَرَبَ لَم يَقُولُوا هَذَا القَولَ فَهُو كَلَامُ غَيرِهِمْ، فَقَدَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ الذِي يُفِيدُ القَطْعَ وَاليَقِينَ أَنَّ العَرَبَ عَجِزُوا عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِ القُرآنِ مَعَ تَحَدِّي القُرآنِ لَهم. فَقَدْ تَحَدَّاهُمْ بِصَرِيحِ آيَاتِهِ أَنْ يَأتُوا بِمِثلِهِ, فَلَمْ يَستَطِيعُوا قَالَ تَعَالَى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا). (الإسراء88) ثُمَّ تحَدَّاهُمْ بِعَشرِ سُوَرٍ مِثلِ القُرآنِ, فَلَمْ يَستَطِيعُوا قَالَ تَعَالَى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ). (هود 13) ثُمَّ تَحدَّاهُمْ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثلِ القُرآنِ فَلَم يَستَطِيعُوا قَالَ تَعَالَى: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). (البقرة 23, 24) وقال أيضاً: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ). ( يونس 38) وَبِالرَّغمِ مِنْ هَذَا التَّحَدِّي الصَّارِخِ فَقَدْ عَجِزَ العَرَبُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثلِ القُرآنِ الكَرِيمِ رَغَمَ مُحَاوَلَاتِهِمُ الفَاشِلَةِ. وَعَجزُهُمْ هَذَا ثَابِتٌ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، وَلَم يَعرِفِ التَّارِيخُ وَلَا رَوَىَ أَحَدٌ أَنَّهُم أَتَوا بِمِثلِهِ. وَالسُّؤَالُ الذِي يَرِدُ الآنَ هُوَ: هَلْ قَبِلَ العَرَبُ التَّحَدِّي أَمْ لَم يَقبَلُوهٌ؟ هَلْ حَاوَلَ العَرَبُ أَنْ يُثبِتُوا أَنَّ بِمَقدُورِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِقُرآنٍ مِثلِ هَذَا القُرآنِ؟ أَمْ أَنَّهُم أَقَرُّوا بِالعَجزِ لِلوَهْلَةِ الأُولَى؟ وَالجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ العَرَبَ قَبِلُوا التَّحَدِّي, وَحَاوَلُوا أَنْ يُقَلِّدُوا القُرآنَ, وَلَكنَّهُم عَجِزُوا عَنِ الإِتيَانِ بِمِثلِهِ, وَعَلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَقَرَّ العَرَبُ لِهَذَا القُرآنِ بِالإِعجَازِ, وَقَالُوا عَنهُ بِأَنَّهُ سِحْرٌ يُؤثَرُ, فَقَدِ استَمَعَ عَمْرُو بنُ العَاصِ كَلَامَ مُسَيلَمَةَ إِذْ عَارَضَ سُورَةَ الفِيلِ التِي يَقُولُ فِيهَا رَبُّ العِزَّةِ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ). يَقُولُ مُسَيلَمَةُ: “الفِيلُ مَا الفِيلُ؟ وَمَا أَدرَاكَ مَا الفِيلُ؟ لَهُ ذَنَبٌ قَصَيرٌ, وَخُرطُومٌ طَوِيلٌ, يَمْشِي عَلَى الزَّنجَبِيلِ”. فَقَالَ مُسَيلَمَةُ لِعَمرِو بنِ العَاصِ: أَلَيسَتْ هَذِهِ أَفصَحُ مِنَ السُّورَةِ التِي نَزَلَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ؟ أَتَدرُونَ مَاذَا كَانَ جَوَابُ عَمرٍو لِمُسَيلَمَةَ الكَذَّابِ؟ قال له عمرو: “واللهِ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنِّي أَعلَمُ أَنَّكَ كَاذِب!!!” وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُحَاكِمَ كَلَامَ عَمرٍو, وَقَدْ كَانَ يَومَئِذٍ كَافِراً لَا يُؤمِنُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ وَلَا بِنُبُوَّتِهِ, فَأَقرَبُ الأَقوَالِ فِيهِ أَنَّهُ مَيَّزَ القَولَ الصَّادِقَ الفَصِيحَ مِنَ القَولِ الزَّائِفِ السَّاقِطِ الكَاذِبِ, فتراه يقول لمسيلمة: إِنَّكَ كَاذِب! وَلَم يَقُلْ: إِنَّكَ وَمُحَمَّداً كَاذِبَان! إِذْ إِنَّهُ يَعلَمُ أَنَّ مُحمَّداً صَادِقٌ, وَأَنَّ قُرآنَهُ مُعجِزٌ وَفَوقَ الُمقَارَنَاتِ!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.