Take a fresh look at your lifestyle.

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح16) ثبوت كون القرآن من عند الله (ج 2)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام

 

(ح16)

 

ثبوت كون القرآن من عند الله (ج 2)

 

الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ. 

 

أيها المؤمنون:

 

السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ, وَعُنوَانُهَا: “ثُبُوتُ كَونِ القُرآنِ مِنْ عِندِ اللهِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتَينِ العَاشِرَةِ وَالحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: “وأمَّا ثُبُوتُ كَونِ القُرآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَهُوَ أنَّالقُرآنَ كِتَابٌ عَرَبِيٌّ جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. فَهُوَ إمَّا أنْ يَكُونَ مِنَ العَرَبِ وَإمَّا أنْ يَكُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَإِمَّا أنْ يَكُونَ مِنَ اللهِ تَعَالَى. وَلا يُمكِنُ أنْ يَكُونَ مِنْ غَيرِ وَاحِدٍ مِنْ هَؤلاءِ الثَّلاثَةِ؛ لأنَّهُ عَرَبِيُّ اللُّغَةِ وَالأسلُوبِ”.

 

ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ:لَو أَرَدْنَا أَنْ نُحَاكِمَ مُسَيلَمَةَ أَيضًا لَقُلْنَا: إِنَّهُ يُقِرُّ لِمُحَمَّدٍ e بِالنُّبوَّةِ, وَيُقِرُّ لِقُرآنِهِ بِالتَّفَوُّقِ وَالإِعجَازِ, فَهُوَ قَد هَضَمَ فِكْرَةَ النُّبوَّةِ, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ادَّعَى النُّبوَّةَ, وَهَضَمَ فِكرَةَ القُرآنِ الْمُعجِزِ, وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَقوَالُهُ في مُعَارَضَتِهِ التِي أَثبَتَتْ تَفَوُّقَ القُرآنِ وَإِعجَازَهُ وَكَذِبَ مُسَيلَمَةَ وَادِّعَاءَهُ. وَيَحلُو لِي فِي هَذَا المَقَامِ أنْ أذكُرَ لَكُمْ بَعضَ مَا جَاءَ فِي قُرآنِ مُسَيلَمَةَ المَزعُومَ, فَهُوَ يَقُولُ:” وَالطَّاحِنَاتِ طَحناً, وَالعَاجِنَاتِ عَجْناً, فَالخَابِزَاتِ خُبزاً”. وَيَقُولُ: “يَا ضِفْدَعُ, يَا بِنْتَ ضِفْدَعَينْ. نُقِّي كَما تَنُقِّينْ. أَعلَاكِ في الَماء, وَأَسفَلُكِ في الطِّينْ. وَمِنَ العَجَائِبِ شَاةٌ سَودَاءَ تَحلِبُ لَبناً أَبيَضَ! 

 

أَلا تَرَونَ مَعِي أَنَّهُ قَد بَانَ لِلنَّاسِ سُخفُ كَلامِ مُسَيلَمَةَ وَقِلَّةَ فَصَاحَتِهِ بِهَذَا الهَذَرِ السَّخِيفِ؟ أَيَجُوزُ لَنَا أَنْ نُعِدَّ مِثْلَ هَذَا الكَلَامِ كَلَاماً فَصِيحاً؟ إِنَّ الذَّوقَ السَّلِيمَ يَمُجُّ مِثلَ هَذَا الكَلَامِ, وَيُسقِطُهُ مِنْ حِسَابِ الْمُقَارَنَةِ, وَلَا يُقِيمُ لَهُ وَزْناً, وَإِنْ كَانَ هَذَا الكَلَامُ السَّخِيفُ يَحمِلُ في ثَنَايَاهُ الاعتِرَافَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ e وَبِوَسَاطَةِ جِبرِيلَ u وَبِسُمُوِّ القُرآنِ! ثُمَّ لِمَاذَا نَذهَبُ بَعِيداً إِلَى مُسَيلَمَةَ؟ تَعَالَوا مَعِي لِنَسمَعَ مَا يَقُولُهُ أَهلُ الفَصَاحَةِ وَالبَلاغَةِ, وَأُمَرَاءُ الفَصَاحَةِ وَجَهَابِذَةُ البَيَان مِنْ أَهلِ مَكَّةَ الذِينَ كَانَتْ لأَحكَامِهِمُ النَّقدِيَّةِ الكَلِمَةُ الفَصْلُ في قَصَائِدِ الشُّعَرَاءِ, وَخُطَبِ الخُطَبَاءِ, وَهُمْ عَلَاوَةً عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَعْدَى أَعْدَاءِ الإِسلَامِ, وَدَعْوَةِ الإِسلَامِ, وَنَبِيِّ الإِسلَامِ, مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلَاةُ والسَّلَام. تَعَالَوا مَعِي إِلَى هَؤُلاءِ لِنَرى وَنَسمَعَ مَا يَقُولُونَ, نَحنُ الآنَ مَعَ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُفَّارِ قُرَيشٍ وَهُم: أَبُو جَهْل, وَأَبُو سُفيَانَ, وَعُتبَةُ بنُ رَبِيعَةَ, جَاءُوا مَعَ عَتمَةِ اللَّيلِ, كُلٌّ مِنهُم في زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الطَّرِيقِ, حَولَ البَيتِ لِيَسمَعُوا قُرآنَ مُحَمَّدٍ, إِذ كَانَ يَقُومُ أَدنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيلِ, يُرَتِّلُ القُرآنَ في صَلَاتِهِ, بِصَوتِهِ الشَّجِيِّ النَّدِيِّ تَرتِيلاً يَأْخُذُ بِالأَلبَاب! لَم يَتَّفِقُوا عَلَى الإِتيَانِ, إِنَّما جَاءَ كُلٌّ مِنهُم بِمُفرَدِهِ, وَلَمَّا فَرَغَ مُحَمَّدٌ e مِنْ تَرتِيلِهِ انصَرَفُوا, فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ العَامُّ, وَقَد أَخَذَتْهُمُ الدَّهشَةُ, إِذ كَيفَ يَأْتُونَ لِيَسمَعُوا القُرآنَ مِنْ عَدُوِّهِم! وَمَا الذِي أَتَى بِهِم؟ وَكَيفَ إِذَا رَآهُم سُفَهَاءُ قُرَيشٍ عَلَى حَدِّ تَعبِيرِهِمْ؟ إِذَنْ لَدَخَلَ الإِسلَامُ كُلَّ الأَبوَابِ, وَطَرَقَ كُلَّ القُلُوبِ! وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَعُودُوا, وَكَانَ كُلٌّ مِنهُمْ يُضمِرُ أَنْ يَعُودَ, يَقُولُ في نَفسِهِ: لَنْ يَعُودَ صَاحِبَايَ, وَسَأَعُودُ بِمُفْرَدِي لِأَستَمِعَ القُرآنَ وَحْدِيْ, وَقَد عَادُوا ثَلَاثَتُهُمْ في اللَّيلَةِ الثَّانِيَةِ, وَفَعَلُوا مَا فَعَلُوهُ في اللَّيلَةِ الأُولَى, فَجَمَعَهُمُ الطَّرِيقُ العَامُّ وَهُمْ عَائِدُونَ بَعدَ سَمَاعِهِمُ القُرآنَ, وَتَعاهَدُوا كَمَا تَعَاهَدُوا مِنْ قَبلُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودُوا, وَعَادُوا في اللَّيلَةِ الثَّالِثَةِ لِيَسمَعُوا قُرآنَ مُحَمَّدٍ, وَهُمْ مَنْ هُمْ عَدَاوَةً وَشَرَاسَةً وَعِنَاداً, أَمَّا هَذِهِ الَمرَّةَ, فَقَد تَعَاهَدُوا عِندَ البَيتِ الحَرَامِ عَلَى ألَّا يَعُودُوا, وَفِعلاً لَم يَعُودُوا بَعدَهَا! لَا بُدَّ مِنْ وَقفَةٍ مَعَ هَؤُلاءِ, لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَسأَلَ: لِماذَا ذَهَبَ هَؤُلاءِ وَالقُرآنُ يَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأتُوا بِمِثلِهِ؟ أَذَهَبُوا لِيُعَارِضُوهُ أَمْ لِيَسمَعُوهُ؟ أَذَهَبُوا مُعْجَبِينَ أَمْ مُنكِرِينَ سَاخِطِين؟ أَظُنُّ أَنَّ الجَوَابَ: إِنَّهُم ذَهَبُوا مُقِرِّينَ بِإعْجَازِ القُرآنِ, وَإِلَّا فَما هُو هَذَا الشَّيءُ الذِي يَحتَاجُ الامتِنَاعُ عَنْ سَمَاعِهِ لِقَسَمٍ عِندَ البَيتِ الحَرَامِ, وَالذِي يَمنَعُهُمْ مِنَ الإِيمَانِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ e هُوَ حِرصُهُمْ عَلَى الزَّعَامَةِ وَالسِّيَادَةِ لَا افتِقَارُهُم إِلَى القَنَاعَاتِ؟فَالقُرآنُ قَد شَدَّهُمْ, وَأَخَذَ عَلَيهِمْ مَنَافِذَ النَّفسِ إِذْ أَنَّهُ مَلأَهَا إِعجَاباً وَشَوقاً لِسَمَاعِ القُرآنِ, وَلَا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ:رَوَىَ البَيهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمَانِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ eفَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَمُّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالاً. قَالَ: لَمَ ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتُعْرِضَ لِمَا قِبَلَهُ قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالاً. قَالَ: فَقُلْ فِيهِ قَوْلاً يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ. قَالَ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ “وَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ, مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يَعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ, وَمَا هُوَ بِقَولِ البَشَرِ”. وَيكفِي في القُرآنِ شَهَادَةَ هَذَا القُرَشِيِّ الكَافِرِ الذِي أَحنَى رَأْسَهُ اعتِرَافاً وَإِعجَاباً!وَلَا نَنسَى أَنَّ القُرآنَ في العُرفِ العَامِّ عِندَ قُرَيشٍ لَهُ سِحرٌ يَأَخُذُ بِالنُّفُوسِ وَالعُقُولِ. لِذَلِكَ اشتَرَطُوا عَلَى ابْنِ الدُّغُنَّة الذِي أَجَارَ أَبي بَكرٍ t أَنْ يَمنَعَهُ مِنَ أَن يُصَلِّيَ في فِنَاءِ بَيتِهِ حَيثُ كَانَ عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ, لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ يَقرَأُ القُرآنَ, وَقُرَيشٌ تَخشَى أَنْ يَفتِنَ هَذَا القُرآنُ أَبنَاءَهَا وَعَبِيدَهَا وَإِمَاءَهَا وَنِسَاءَهَا, فَمُنذُ مَتَى كَانَ سَمَاعُ الكَلَامِ فِي قُرَيشٍ لَهُ مِثلُ هَذَا التَّأثِيرِ؟ هَلْ يَخشَونَ مِنَ الكَلَامِ وَهُمْ أَربَابُ الفَصَاحَةِ وَأُمَراءُ البَيانِ؟ أَلا تَدُلُّ هَذِهِ الخَشيَةُ عَلَى الاعتِرَافِ بِتَفَوُّقِ القُرآنِ فَصَاحَةً وَبَياناً؟ أَلَا تَدُلُّ هَذِهِ الخَشيَةُ عَلَى عَمِيقِ الاعتِرافِ بِإعجَازِ القُرآنِ؟ وَكَيفَ لَا وَالقُرآنُ يَتَحَدَّاهُم أَنْ يَأتُوا بِمِثلِهِ, وَالتَّحَدِّي قَائِمٌ صَبَاحَ مَسَاءَ, يَقرَعُ أَسمَاعَهُم, وَيُخاطِبُ عُقُولَهم؟

 

أيها المؤمنون:

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.