الصائم مع القرآن والسنة
الصائمُ الثابتُ على الحقِّ
يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا في مُحكَمِ تنزيلِهِ: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)، دَلَّتِ الآيةُ الكريمةُ على أنَّ الإنسانَ يقضيْ حياتَهُ مُكابداً فيها مُعانياً في مختلِفِ شؤونِ تلكَ الحياةِ.
هذا الإنسانُ بعامةٍ، لكنَّ المسلمَ مكابَدَتُهُ ومعاناتُهُ أشدُّ وأعظمُ نظراً للتكاليفِ الشرعيةِ التي يَسيرُ في الحياةِ بحسبِها.
ولكنْ إنْ كان المسلمُ مكابداً، والإنسانُ مكابداً، فما ظَنُّكَ أخي المستمعُ الكريمُ في حاملِ الدعوةِ؟؟
يكفيْ حاملَ الدعوةِ أنَّ خيرَ البَشَرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم قُدوتُهُ، وقدْ تَعَرَّضَ للأذى الشديدِ بمختلِفِ أنواعِهِ.
فقد أخرجَ الحاكمُ في مُسْتَدْرَكِهِ عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (لقد ضربوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتى غُشِيَ عليه، فقامَ أبو بكرٍ رضيَ الله عنهُ، فجعلَ يُنادِيْ ويقولُ: وَيْلَكُمْ أتقتلونَ رجلاً أنْ يقولَ ربيّ اللهُ؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: هذا ابنُ أبي قُحافَةَ المجنونُ).
وقد ذكَرَ الله سبحانَهُ وتعالى شيئاً من مُحاولاتِ كفارِ مكةَ صَدَّ رسولِ اللهِ صلى الله عليهِ وسلمَ عن دينهِ والدعوةِ إليه، فقالَ عزَّ مِنْ قائلٍ: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
وكذلكَ الصحابةُ الكرامُ قدْ لاقَوْا أشدَّ صنوفَ التعذيبِ والتشريدِ معَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ، فقد تعرَّضوا للضربِ الشديدِ، وشُدَّ وَثاقُهُمْ؛ كما حصلَ معَ سعيدِ بنِ زيدٍ رضيَ اللهُ عنه، ومنْ كانتْ له أمٌّ جعلوها تَضْغَطُ عليهِ كما حصلَ معَ مصعبٍ رضي الله عنه، وصهروهم بالشمسِ كما حصلَ مع بلالٍ رضيَ الله عنهُ، وعتّموا على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ وعلى صحابتِهِ الكرامِ إعلامياً، ومنعوهم من مخاطبةِ الجماهيرِ، كما حصلَ مع أبي بكرٍ الصديقِ رضيَ الله عنهُ، ورمَوْا رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ بالحجارةِ، وألْقَوْا عليهِ الأذى من فروثِ الحيواناتِ، وحاولوا وَطْءَ رقبةِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ الشريفةِ، وتعفيرَ وجهِهِ بالترابِ، واستخدمَ كفارُ مكةَ أسلوبَ التجويعِ، أخرجَ ابنُ حِبّانَ عن أنسٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (لقدْ أوْذِيْتُ في اللهِ وما يُؤْذَى أحدٌ، ولقدْ أُخِفْتُ في اللهِِ وما يَخافُ أحدٌ، ولقدْ أتَتْ عليَّ ثلاثٌ من بينِ يومٍ وليلةٍ وما لي طعامٌ إلاّ ما وَارَاهُ إِبْطُ بلالٍ)، وتَعرَّضَ صلى الله عليهِ وسلمَ وعشيرتُهُ للمقاطعةِ، فلا بيعَ ولا شراءَ ولا نكاحَ ولا مخالطةَ، وقطعوا عنهم الْمِيرَةَ والمادةَ. وتعرضَ صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرامُ للاستهزاء والغَمْزِ، وقامَ الكفارُ بمساومةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلمَ على المبدأِ بالرئاسةِ وبالمالِ، وتعرّضَ للسبِّ والشتمِ، والتكذيبِ، والدعايةِ المضادّةِ، وحاولوا منعَهُ من الهجرةِ، وحاولوا قتلَهُ، وهدّدوه بالقتل، فصبَرَ صلى الله عليه وسلمَ، وثبتَ على الحقِّ الذيْ بعثَهُ اللهُ تعالى به، بل كانَ يحثُّ صحابتَهُ الكرامَ على الصبرِ والثباتِ، ويضربُ لهم الأمثالَ من قِصصِ الإنبياءِ السابقينِ وأتباعِهِم، روى البخاريُّ عن خَبّابِ بنِ الأَرَتِّ قال: (شَكوْنا إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ وهوَ مُتَوَسَّدٌ بُردَةً له في ظِلِّ الكعبةِ، قلنا له: ألا تستنصرُ لنا ألا تدعو لنا؟ قال: كانَ الرجلُ في مَنْ قبلَكَم يُحْفَرُ له في الأرضِ فيُجْعَلُ فيه، فَيُجَاءُ بالمنشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فَيُشَقُّ باثنتَينِ وما يَصُدُّهُ ذلك عن دينِهِ، ويُمَشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لحمِهِ مِنْ عَظْمٍ أوْ عَصَبٍ وما يَصُدُّهُ ذلك عن دينِهِ، واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ، حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يَخافُ إلا اللهَ أو الذئبَ على غَنَمِهِ، ولكنّكم تستعجلونَ).
فمنْ أولى من حامل الدعوةِ الصائمِ بالثباتِ على الحقِّ، والصبرِ على مَشاقِّ الحياةِ الدنيا، والصبرِ على محاولاتِ الكفارِ صَدَّهُ عن دينِهِ، وعن حملِ دعوةِ دينِ اللهِ تعالى؟ وهو الذي تَرَكَ طعامَهَ وشرابَه وشَهَواتِهِ امتثالاً لأمرِ اللهِ تعالى.