العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الثالثة عشرة
ثالثاً: عقدة البعدية أو البعدينية
هذه العقدة مرتبطة بالسؤال الثالث من أسئلة العقدة الكبرى عند الإنسان: إلى أين؟ والتي يكون جوابها عن مصيره بعد الموت، وأنه عائد إلى الله تعالى ليسأله ويحاسبه عن أعماله في الدنيا، فعند الإنسان تعلق وارتباط وثيق بما بعد الحياة الدنيا، ارتباط بين دوافع السلوك لديه وبين الغاية، والغاية لا تنفصل عن الغاية الكبرى والبعيدة، بل إن الغاية القريبة إن لم ترتبط بالغاية البعيدة أي بما بعد الحياة الدنيا تصبح لا معنى لها ولا طعم، لأنه في كل مرة يحقق فيها الإنسان شيئاً، وينجز أمراً، ويشبع دافعاً، يثور لديه السؤال: وماذا بعد؟ أو بالعامية: وبعدين؟ فيفقد طعم الفوز والنجاح، ويفقد طعم الإشباع ويفقد طعم الحياة، ويقع بين براثن اليأس، لأنه ليس هذا الذي يريده، لإن مجرد الإشباع، ومجرد الإنجاز، ومجرد النجاح، ومجرد الفوز، ومجرد التحقيق لأي شيء لا يعني إلا الإشباع، ولا يعني إلا الإنجاز، ولا يعني إلا النجاح، ولا يعني إلا الفوز، ولا يعني إلا التحقيق للشيء، وينتهي طعمه والإحساس به حين انتهاء تأثيره، وانتقال الإنسان من حالة تأثير التحقيق لأي شيء مما سبق، إلى غيره، فإنه ينسى ذلك الطعم، ويفقده.
ولكن ما السبيل إلى المحافظة على طعم الإشباع والإنجاز والنجاح والفوز والتحقيق لما يريد؟
السبيل الوحيد هو في إجابة السؤال الثالث من أسئلة العقدة الكبرى: إلى أين؟ إجابةً عقلية صحيحة مقنعة.
والإجابة الصحيحة هي في الركن الخامس من أركان الإيمان، الإيمان باليوم الآخر، والعمل بمقتضى هذا الإيمان، فإن وجد هذا الإيمان، فهنا يصلح الإنذار: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)، فمن يخفْ أن يحشرَ إلى ربه يوم القيامة يتخذ الله تعالى ولياً له، ويجعله شفيعاً له، يرج رحمته ويخش عذابه، فيمتثل أمره، ويُرجَ منه أن يكون تقياً، كما دل على ذلك آخر الآية المفيدة للترجي المتحقق: (لعلهم يتقون) أي أن التقوى هي ثمرة من ثمار الخوف من الحشر في اليوم الآخر، والتقوى امتثال أمرِ الله تعالى في الحياة الدنيا، واجتناب ما نهى عنه.
وأورد الله سبحانه وتعالى أمثالاً من الأمم السابقة وكيف عُذِّبَ المكذبون منهم في الدنيا، وذكره ليكون آيةً وعبرة لمن يخاف عذاب الآخرة، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ)، فمن يخاف عذاب الآخرة أولى وأجدرُ بالاعتبار وأخذ العظة من الأمم السابقة وما حاق بهم من عذاب أليم في الدنيا، وما ينتظرهم من عذاب شديد في الآخرة، فلا يقع في ما وقعوا فيه من المعصية للرسل والتكذيب لهم.
بهذا يهدأ سؤال: وماذا بعد؟ أي تحلُّ عقدة البعدية، فلا يتحوّلُ رضاه بعد تحقيق شيء إلى قلق واضطراب تثيرها تساؤلات: ماذا بعد؟ ولكن، كيف هذا؟
إن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من أهوال وحشر وحساب، ثم الثواب والعقاب، يجعل الإنسان يجيب عن سؤال: لماذا؟ ليدرك أن هناك أوامرَ عليه التزامُها والقيامُ بها، وأن هناك نواهيَ عليه اجتنابها والابتعاد عنها، فإن فعل والتزم الأمر واجتنب النهي، استمر رضاه، ودامت طمأنينته، والسبب هو أنه قد ادّخر عملاً صالحاً يرتجي ثوابه يوم القيامة، ويكون قد أرضى ربه وخالقه، فيزداد طمأنينة ورضا، ويستمرّ رضاه ما دام يعمل عملاً صالحاً، وتمتد طمأنينته ما دام يجتنب ما نهى الله عنه. اسمع قول الله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) من يسلمْ وجهَه لله وهو محسنٌ فإن له الأجر في الآخرة، وكذلك لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون لا في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، ومثلها عشرات الآيات التي تعد بالأجر عند الله تعالى لمن آمن وعمل صالحاً، وأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن
لمتابعة باقي حلقات السلسلة