العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الثلاثون
– ضمنت العقيدةُ الإسلاميةُ، التي هي الحلُّ الصحيحُ للعقدة الكبرى، ضمنت لمعتنقها رزقه حتى يموت، فجاءتْ بعقيدةِ الرزقِ، التي تقضيْ بأنَّ الله تعالى هو الذي يبسطُ الرزقَ لعبادِه، ويقدرُ عليهم رزقهم، وورد في ذلك عشراتُ الآياتِ والأحاديثِ الصحيحةِ، فلا يقلقُ المسلمُ على غَدِه، ولا على مستقبلِه، لأنَّ كل يومٍ يمرُّ عليه، يأتيه فيه رزقُه، فلا يقلقُ على رزقِ غدِهِ، ولا على مستقبلِهِ ولا على مستقبلِ أولادِهِ، بل يطمئنُّ أنَّ اللهَ تعالى لن ينسى رزقَ أحدٍ من عبادِهِ: (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا)، فلا يقومُ بالتوفيرِ والادّخارِ، ويطمئنُّ على غدِهِ كما يطمئنُّ على يومِه.
– إن اللهَ سبحانَه وتعالى هو وحدَه بيدِهِ الغيبُ، وهو وحده بيدِه القضاءُ والقدر، وبيده أجلنا، وهو الذي قدّرَ ما سيصيبنا، قال الله سبحانه وتعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) انظر إلى هذه الآية التي أخبرت أنّ ما من مصيبةٍ تقعُ إلا بعلمِ الله تعالى، وأتبعت ذلك بالقول: لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، ثم أتبعت ذلك بالبخل، بمن يبخلُ ويأمرُ الناسَ بالبخل، وكأنَّ البخيلَ وآمرَ الناسِ بالبخلُ يبخلُ خوفاً على غدِه. ولذلك فإن ما يقول به بعض الناسِ: إنك لا تدري ماذا يمكن أن يصيبني غداً… فقائل هذا القول يسيءُ الظنَّ بالله تعالى، فمن يخافُ على غدِه فإنه لا يحسبُ حسابَ ربِّه، وأنه موجودٌ ويتولى شؤون عبادِه. وجواب العقيدة عن هذا القول: إن كنتُ لا أدري، وإن كنتَ أنتَ أيضاً لا تدري، فإنَّ اللهَ تعالى يعلمُ، ويكفي هذا، فهو عالم الغيبِ والشهادة، وهو الرزاق ذو القوةِ المتينُ، وهو الذي يرزقنا ويرزقُ أولادَنا، ويعلمُ بما سيبتلينا به، ويهيئُ لنا المخرجَ مما يبتلينا به، هذا فقط للمؤمن، فكلُّ أمرِهِ خيرٌ له، فما يمكنُ أن يصيبَكَ إن كنت مؤمناً فهو الخيرُ لك.
– قرّرت العقيدةُ أن ليس للإنسان من المال الذي معه إلا ما أنفقه، وأن ما يدّخرُه فإنه ليس ماله، بل إنه سيذهب ويتركه، وسيكون مالَ الوارث، روى مسلمٌ عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر. قال: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك يا ابن آدم! من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟)، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (من أصبح آمناً في سِرْبِه، مُعافًى في بدنِه، عنده قوتُ يومِه، فكأنما حِيْزَتْ له الدنيا بحذافيرِها).
– قررت العقيدةُ الإسلاميةُ بما انبثقَ عنها من أحكام، أنَّ التوفيرَ الحقيقيَّ للإنسان إنما هو في ما ينفقُهُ، وليس في ما يُبقيهِ عندَه، روى الترمذيُّ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ما بقي منها؟) قلت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: (بقي كلها غير كتفها)، فالذي بَقيَ من الشاةِ مُدَّخَراً هو ما تصدقت به عائشة رضي الله عنها، والباقي بعد الصدقة ليسَ هو التوفيرَ.
– أوجبت العقيدةُ الإسلاميةُ على المسلمين التكافلَ في ما بينهم، فلا يحلُّ لمسلمٍ أن يدّخرَ مالاً لغيرِ حاجةٍ وهو يعلمُ أنَّ في منطقته أو حيّه من هو جائعٌ لا يجدُ ما يأكلُ، أو من هو عارٍ لا يجدُ ما يلبس، روى الإمامُ أحمدُ في مسنده عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه، وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله تعالى).
وبهذه الأحكام والمفاهيم ضمنت العقيدةُ الإسلاميةُ –التي هي الحلُّ الصحيحُ للعقدةِ الكبرى- ألاّ يشكّلَ المالُ مصدرَ قلقٍ للمسلم، بل هو وسيلة يستعين بها الإنسان على قضاء حاجته، دون أن يجعلَه غايةً أو هدفاً، يقلقُ إن لم تتحقق غايتُه، ويضطرب إن فاته منه شيء.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن