العقدة الكبرى والعقد الصغرى
الحلقة الثالثة والثلاثون
رابعَ عشرَ: عقدة مستوى الحياة-
لما انشغل الناسُ عن دينِهم، وسكتوا عن ذهابِ دولتهم، دولةِ الخلافة، ورضوا بأنْ يُحْكَموا بالنظام الرأسمالي، ورضوا بغزوِه الفكري، صاروا يعانون العقدةَ تِلوَ العقدةِ، تتالت العقدُ عليهم واجتمعت، ومن هذه العقد التي كان للنظام الرأسمالي، والغزو الفكري، دورٌ كبيرٌ في إيقاعِ الناس بها عقدةُ مستوى الحياة.
يكادُ لا يرضى الكثير من الناس بما هم عليه من مستوى حياتِهم، ويكادون لا يرضون بما قسمَ لهم من رزق، كلٌّ يستمرُّ في النظر إلى من فوقَه، محاولاً الصعودَ ليكونَ في مرتبتِه أو أعلى منها، ويبقى هذا الهدفُ هاجسَهُ، يؤرِّقُه ليلَ نهار، لا يهنأ له نومٌ في ليل وهو يخطط ويبحث عن الوسائل والأساليب التي توصله ليكون في مرتبة من فوقَه، ولا يستقرُّ له في النهارِ قرارٌ، يدور ويحور، ويصولُ ويجول، باحثاً عن سبيل للارتفاع والارتقاء المادي، طارقاً كل باب.
فوقع هؤلاء الناس في شقاء مفهوم (مستوى الحياة)، وشقاء هذه العقدة، مع أنها صغرى، عقدة أنَّ مستوى الحياة الذي هو عليه، مما آتاه الله وقسمه له لا يناسبُ مثلَه، فتجدُه يخلطُ الأمورَ بعضَها ببعض فيقول: وهل فلانٌ أحسنُ مني؟ أو فلانٌ أقوى مني؟ أو فلانٌ أكثرُ مني تفكيراً وتدبيراً وتخطيطاً؟ وغير ذلك من الخلط، وتجاوزِ الحدِّ، والتطاولِ على اللهِ تعالى الذي قسّم بين الناس معيشَتَهم بحكمته البالغة.
ولو نظر كل واحدٍ من هؤلاءِ الموصوفين بما سبق أعلاه، لو نظر كل واحدٍ منهم إلى نفسه وواقعه وأهله وبيته وأولاده لوجد أنه لا ينقصُهُ شيءٌ، وأنَّ كلَّ حاجاته الضرورية مقضيةٌ، وربما كثير من حاجاته الكمالية متوافرةٌ عنده، ولكن مع كل هذا تجده لا ينظر إلى واقعه، وواقع من هو مثله، ولا إلى واقعِ من هو دونه، ليدركَ عظمَ نعمةِ الله تعالى عليه، بل ينظرُ إلى من فوقَه، فيزدري نعمةَ الله عليه، ويقلّلُ من شأنها.
إنّ الحلَّ الصحيحَ للعقدةِ الكبرى بالعقيدةِ الإسلامية حلَّ هذه العقدةَ الصغرى عند أصحابها ممن يعتنق هذا الحلَّ، ويرضى به حلاّ لعقدتِه الكبرى، ويفهَم ما جاء في هذا الحلِّ الشامل من حلولٍ منبثقة عنه لقضاياه الجزئيةِ اليسيرة، وجاءَ الحلُّ أنَّ الله تعالى هو الذي قسَمَ بين الناسِ معيشَتَهم، وهو الذي رفعَ بعضَهم فوقَ بعضٍ درجاتٍ ليعمل بعضُهم عندَ بعض، ويُعطي بعضُهم بعضاً أجرتَهُ لقاءَ عملِه عنده، وكونه مسخراً عنده لينجزَ له عمله، قال الله سبحانه وتعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا) فما هو عليه الإنسانُ من مستوى حياتِهِ إنما هو بتقسيمِ اللهِ سبحانَه وحسنِ تدبيرِهِ وتقديرِه، ومن سعى إلى ما هو أكثر من ذلك جاءَه الجوابُ من الله سبحانه وتعالى: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) أي أن رحمةَ الله تعالى خيرٌ مما يجمعُه الجامعونَ من مالٍ ومتاعٍ زائلٍ من متاعِ الدنيا.
وردّاً على أولئك الذينَ يتطلعونَ إلى من فوقَهم في مراتب الدنيا، ويبررون تطلعهم ذاك بأنه ليس أحدٌ أحسنَ من أحدٍ، ولا أمهرَ من أحدٍ ولا أقدرَ منه على كسبِ رزقِهِ، ردّاً عليهم يقول الله سبحانه وتعالى: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا) فما أعطيَهُ هؤلاءِ الفقراء، وما أعطيَه هؤلاء الأغنياء إنما هو من عطاء الله سبحانه وتعالى، وله الحمد والشكر. بل إنّه سبحانه وتعالى يلفِتُ النظرَ إلى ذلك فيقول في الآية التالية: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)، ويضيف أن التفضيلَ الحقيقيَّ والكبيرَ بين الناسِ إنما هو في الآخرة.
كذلك فإن الله سبحانه وتعالى يبيّنُ أنَّ ما يُؤتاهُ الناس من نعمٍ إنما هو متاعٌ للحياةِ الدنيا، لا يستحقُّ أن يُجْعَلَ غايةً ولا هدفاً في الحياةِ، وإنما يَتعاملُ معه الناس بما ييسرُ لهم حياتَهم في طاعةِ الله والقربِ منه، وفي حملِ دعوته، ثم البلوغ إلى التفضيل الحقيقيِّ في الآخرة، يقول سبحانه وتعالى: (وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ).
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير
أبو محمد – خليفة محمد – الأردن