الميزان
ميزان الفكر والنفس والسلوك
الحلقة السادسة عشرة
والفرق بين الغريزة ومظهر الغريزة، أن الغريزة متأصلة في خِلقة الإنسان تظهر بمظاهر متعددة، فلا يمكن محوها أو تعويضها بغريزة أخرى، بخلاف المظهر الذي يمكن إزالته بغيره، وتعويضه بمظهر آخر من مظاهر الغريزة. فمن ذلك معالجة الأثرة بالإيثار مثلاً.
ويرافق الدوافع عند الإنسان مشاعر وأحاسيس، كالشّوق والأمل والحرص والكره والخوف وغير ذلك.
ويتميز الإنسان في دوافعه عن الحيوان بأن الدوافع والمشاعر ترتبط عنده بالفكر، فالإنسان عنده عقل يميز بين المشبعات، ويختار نوع المشبع، ويختار أن يشبع أو لا يشبع، ولذلك نقول إن الدوافع عند الإنسان ومشاعرها تتعلق بمفاهيم لديه عن الإشباع.
والنتيجة أن الدوافع والمشاعر ترتبط بمفاهيم تحدد عند الإنسان إثارتها ابتداءً، أي تثور أو لا تثور، ثم تحدد لديه أن تشبع أو لا تشبع إذا أثيرت، ثم تحدد لديه نوع المشبع حين إرادة الإشباع.
من هنا يأتي الارتباط بين النفس والعقل عند الإنسان، ومن هنا ينشأ عندنا مصطلح جديد وهو مصطلح الشخصية، فشخصية الإنسان لها مكونان: العقلية والنفسية، وهذان المكونان يختلفان عن مصطلحي العقل والنفس، وسنشرح ذلك إن شاء الله لاحقاً في موضعه.
بعد ذلك البيان لواقع النفس، والتعريف الذي ذكرناه وشرحنا واقعه، نكمل ميزان التعريف، فقد بينّا واقعه ومطابقته لواقعه، ونبين الآن قياسه على العقيدة، أي بناءه عليها.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: (زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب، قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) / 14-15
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الروم: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) /30
ففي الآية الأولى من آيتي آل عمران ذكر الله سبحانه وتعالى ما زُيِّن للناس، وذكر أموراً متعلقة بغريزة النوع وهي حب النساء وحب البنين، وذكر أموراً متعلقة بغريزة البقاء وهي حب القناطير المقنطرة من الذهب والفضة أي المال، مظهر التملك، والخيل المسوّمة، التي هي رمز الشجاعة والسيادة والغلبة، والأنعام، والمزروعات، من مظاهر التملك عند الإنسان.
ثم عّقَّب الله سبحانه وتعالى بعد ذلك بقوله: ( ذلك متاع الحياة الدنيا )، وصف كل ما سبق بالمتاع، الذي يُتَمَتَّعُ به ثم ينتهي، وهو متعلق بمرحلة جزئية قصيرة من حياة الإنسان وهي الحياة الدنيا.
وأمر الله سبحانه وتعالى في آية الروم بإقامة الوجه للدين حنيفاً، كناية عن الاستقامة على الدين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه، مائلاً عمَّا سواه، ذكر الله سبحانه (فطرت الله التي فطر الناس عليها)، أي أن إقامة الوجه للدين حنيفاً عن غيره هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالتدين فطرة في الإنسان، أي غريزة فيه، وأن كل إنسان فيه هذه الفطرة فلا تبديل لخلق الله، ذلك هو الدين القيم، أي إقامة الوجه لدين الله هو الدين القويم المستقيم، وختم سبحانه الآية بحقيقة أن أكثر الناس لا يعلمون، وقد ذكر في السورة نفسها: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) الروم /6 -7
كتبها للإذاعة وأعدها: خليفة محمد- الأردن