إقامة الدولة في ظل قانون السببية
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الجزء الثاني عشر: السنن الكونية، والسنن المجتمعية والسنن الإلهية)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنا
إذا لم يأخذ مصمم الطائرة بعين الاعتبار حسابات دقيقة لأوزان الطائرة، بأجنحتها ومحركاتها وهيكلها، وأوزان الركاب وبضائعهم، والقوة التي ينبغي للمحرك أن يمتلكها للتغلب على الجاذبية ومقاومات الهواء، ولدفع الطائرة للأمام، وأطوال الأجنحة وأشكالها الانسيابية التي تسبب فرق الضغط بين أعلاها وأسفلها، وأجهزة الملاحة والتوجيه فيها، وعمليات الاحتراق في المحركات لبلوغ درجات حرارة معينة قادرة على إنتاج قوة دفع، وأشكال المراوح في المحرك، والمواد المستعملة في الصناعة، وقدرتها على تحمل الحرارة الشديدة في المحرك، وسائر القوانين الحاكمة لهذا كله، فإنه لن يستطيع أن يجعل الطائرة تطير، فهو في هذا كله إنما يستعمل قوانين السببية والسنن الكونية التي نظمت هذا كله وفقا لقوانين منضبطة عليه أن يحسن استقراءها، وأن يجري التجارب التي تعينه على إنجاح التصميم ووضع كل مادة في موضعها، وأن يقوم كل جهاز، وكل نظام في الطائرة بعمليات منضبطة للغاية، وهكذا فإن أي اختراع بشري، وأي تصميم ذكي، وأي عمل غائي، لا بد أن يقوم صانعه ومصممه باستقراء القوانين الناظمة للكون والاستفادة منها، فإذا ما عرف المسببات وأخذها بالحسبان، بلغ الغاية، وإذا فشل في أي منها فقد تكون النتائج كارثية! فهنا استثمار للعلاقات السببية ضمن نطاق السنن الكونية الحتمية، استثمرت في عمل غائي منتج.
ومثال آخر: أن يجتمع أهل القوة في مجتمع على اعتقاد مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات المنبثقة عن عقيدة كلية، ويرون إقامة السلطان عليها، فيفرضوا رأيهم على الباقين، ويكون لهم قوة مادية ومعنوية في المجتمع كافية لتجعل المجتمع ينقاد لرأيهم، فيشكلوا الرأي العام، فيقوم المجتمع وفقا لمفاهيم وأنظمة معينة، ويتغير المجتمع بناء على المفاهيم والقناعات التي تحملها هذه الفئة، فتقوم دولة مكان دولة، فهؤلاء لو قاموا بهذا الفعل، مع وجود الشروط اللازمة فإن قيامهم به سوف يوجد النتيجة حتما، والتي بدورها تنسجم مع القوانين الطبيعية في الكون والتي خلق الله الكون بناء عليها، وإن تأخر وقوع النتيجة زمنا، فهذه سنة إنسانية أو مجتمعية، مستنبطة من النظر في سنن قيام الدول واستمرارها. ولكن هذا التفعيل للطاقة السببية، وإحداث النتيجة مرهون بوجود الحزب السياسي، فالأنظمة السببية العاقلة كالإنسان والدول والأحزاب لها دوافع إرادة وغاية وراء كل فعل سببي تقوم بأدائه وتكون سابقة للأفعال السببية، وعليهم أن يستنبطوا هذه السنن اللازمة للتغيير، ويسيروا في ركابها تشدهم الغاية للأمام، وتدفعهم الأسباب من الخلف ليصلوا لمبتغاهم.
أما الأنظمة السببية غير العاقلة كالسيارة والطائرة والساعة والنظام البيئي فليست غائية بذاتها أي لا توجد لها أهداف خاصة بها، بل تقوم بأداء عملها ووظيفتها كما هي مبرمجة عليه وفق القوانين والسنن الطبيعية، ولذا فإن مبرمج أو صانع الأنظمة السببية غير العاقلة هو من يملك الإرادة وهو صاحب الهدف وهو الذي يحدد وظيفة وعمل النظام، ولكن عليه أن يدرك السنن الكونية المحكمة ويعمل في إطارها وإلا فإن تصميمه لن ينجح.
لذلك فإن السببية يمكن أن تُفَعَّلَ تفعيلا، بناء على تصميم وحكمة وغاية، بمعرفة أسبابها وشروطها، واستغلالها، وليس بالضرورة أن تكون تصرفا آليا لا دخل للعقل والحكمة في الأخذ بشروطه وأسبابه وإيقاعه! (فرق بين السنن الكونية، والتي تجري بشكل آلي فوري، إذ إن الإنسان إذ يرتفع عن الأرض بجسمه تجذبه إليها فورا، فيقع، وبين السنن الإنسانية/المجتمعية والسنن الإلهية التي تجري حتما، وتقتضي وجود الأسباب لحصول المسببات، ولكنها قد لا تجري بشكل آلي فوري، وإنما بمقتضى الإرادة وقد تجري فورا، ومثالها نصر الأنبياء في الحياة الدنيا يقوم فيه النبي بما أُمِرَ به من فعل، وينتظر النصر من الله، ولكن النصر يقتضي أن يقوم بنصر الله أولا، والثبات على منهجه، وبقيامه بعمله على نحو يتعرض فيه لنفحات النصر من الله فينصره الله تعالى ويمكن له).
إذن فقد فرقنا بين السنن الكونية (الفيزيائية) التي لا يتأخر فيها حدوث المعلول بمجرد وجود علته، فالإنسان الذي يطير في الجو من غير آلة، ستجذبه الأرض فورا نحوها بالجاذبية، فلا تتأخر، وبين السنن الإنسانية والتي يحتاج فيها المصمم لدراسة المؤثرات اللازمة له لإنجاح تصميمه، وأنه إذا أغفل أي عنصر أساسي في العلاقة السببية أو أغفل شروطا أساسية للسببية فإن تصميمه سوف يكون ناقصا ولا ينجح بالشكل المطلوب، فإذا استغل كل العناصر السببية أنتج المسبب حتميا ونجح في مهمته، وبين السنن المجتمعية/الإنسانية، التي يسير فيها الإنسان في استثمار العلاقات ودراسة السنن ليستعمل العناصر اللازمة لإنجاح منظومته السببية، أو للوصول لغاياته المجتمعية.
سنعرف السنن الإنسانية/المجتمعية، والسنن الكونية/الفيزيائية بأنها “الشيء الذي يكتسب طاقة التغيير في زمن معين، ويستطيع بامتلاكه هذه القوة السببية أن يؤثر في غيره من الأشياء القابلة للتأثر ونقلها من حالة معينة إلى حالة جديدة مغايرة للحالة السابقة، بشكل لا يتخلف، تغييرا فيه من الآلية (أي الحتمية في استجابة المسبَّب للطاقة السببية بمجرد وجودها – السنن الكونية/الفيزيائية)، مع تأثره بطبائع وسنن إنسانية مصممة (السنن الإنسانية/المجتمعية)، وهي وإن كانت بذكاء تصميمها تفضي إلى إحداث التغيير، إلا أنها غير حدية، فهي قابلة للتفاعل، بحيث تفضي إلى التغيير نتيجة حسن التدبير والتصميم، ومناسبة الآليات والشروط المصممة خصيصا لإحداث التغيير مع الشيء المراد تغييره، فالتغيير الذي تحدثه ليس تغييرا آليا مجردا، وهذه السنن أو النواميس الكونية والإنسانية تجري على الصالح والطالح، على المؤمن والكافر سواء، فعمل قانون السببية الكوني يتلاءم ونظام الوجود، ينتصر فيه القوي على الضعيف، وإن انتصر الضعيف فلاستعماله عناصر قوة لم يستعملها القوي مثل الذكاء والحيلة، فيتفوق بقوة ذكائه، وهكذا.
فالسببية والسنن هي ربط الأسباب المادية بمسبباتها المادية من أجل تحقيق قصد معين أو هدف معين بمعرفة جميع الأسباب والشروط المفضية إلى تحقيقه ثم ربطها فيه جميعها ربطاً صحيحاً، وعندها فقط نقول إننا أخذنا بالأسباب أي بقاعدة السببية.
وليس المقصد من العلاقة السببية مجرد أن نفهم شرط وجود الشروط والسبب، لتحقق المسبب ووقوعه، وإنما الغاية هي حسن فهم هذه العلاقة بغية الاستفادة منها في تسيير شئوننا بما يفضي للقيام بالواجبات المنوطة على الوجه الأكمل، أي توظيف السببية لإنجاز الغايات وتحقيق الأهداف.
وسنقابل ذلك بالسنن الإلهية، وهي تلك النواميس التي تحصل بسبب الاستجابة لقوانين إلهية بينها الله لنا، تتميز بتوجيه النواميس الكونية وجهة التماشي مع قصد الخلق، فينتصر الحق على الباطل مثلا، وينصر الله رسله والذين آمنوا، حتى وإن كانوا قلة مستضعفين، فتقضي السنن الإلهية بتسيير المسببات بالغائية، فالأسباب تدفع الحدث من الخلف والغايات تجر الهدف إلى الأمام، فتحقق السببية الإلهية مقصدا يفوق مجرد التفاعل بين الأسباب والمسببات لإنتاج تغيير ما، ليعمل قانون السببية بما يحقق غايات الشرائع وقيام ميزان الحق والعدل في الأرض.