Take a fresh look at your lifestyle.

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام (ح54) خطأ القيادة الفكرية الشيوعية لأنها مبنية على المادة

 

بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام

(ح54) خطأ القيادة الفكرية الشيوعية لأنها مبنية على المادة

 

 

الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ. 

 

أيها المؤمنون:

 

السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الرَّابِعَةِ وَالخَمسِينَ, وَعُنوَانُهَا: “خَطَأُ القِيَادَةِ الفِكرِيَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ لأنَّهَا مَبنِيَّةٌ عَلَى المَادَّةِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الأربَعِينَ مِنْ كِتَابِ “نظَامِ الإِسلامِ” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.

 

يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: “وَالحَاصِلُ أنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الإسلاميَّةَ هِيَ وَحْدَهَا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَمَا عَدَاهَا قِيَادَاتٌ فِكرِيَّةٌ فَاسِدَةٌ، لأنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الإِسلامِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى العَقْلِ، فِي حِينِ أنَّ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةَ الأُخرَى غيرُ مبنيَّةٍ عَلَى العَقْلِ، وَلأنَّهَا قِيَادَةٌ فِكرِيَّةٌ تَتَّفِقُ مَعَ فِطْرَةِ الإِنسَانِ، فَيَتَجَاوَبُ مَعَهَا فِي حِينِ أنَّ القِيَادَاتِ الفِكرِيَّةَ الأُخْرَى تُخَالِفُ فِطْرَةَ الإِنسَانِ. وَذَلِكَ: أنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الشُّيوعِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى المادِّيَّةِ لا عَلَى العَقْلِ، لأنَّها تَقُولُ: إِنَّ المَادَّةَ تَسْبِقُ الفِكْرَ، أيْ تَسْبِقُ العَقْلَ، وَلِذَلِكَ فَالمَادَّةُ حِينَ تَنْعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ تُوجِدُ بِهِ الفِكْرَ، فَيُفَكِّرُ فِي المَادَّةِ الَّتِي انْعَكَسَتْ عَلَيهِ. أمَّا قَبْلَ انعِكَاسِ المَادَّةِ عَلَى الدِّمَاغِ فَلا يُوجَدُ فكرٌ، وَلِذَلِكَ فَكُلُّ شَيءٍ مَبْنِيٌّ عَلَى المَادَّةِ، فَأصْلُ العَقِيدَةِ الشُّيُوعِيَّةِ أيِ القِيَادَةِ الفِكرِيَّةِ الشُّيُوعِيَّةِ هُوَ المَادِّيَّةُ وَلَيسَ الفِكْرَ, وَهَذَا خَطأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الأوَّلِ أنَّهُ لا يوجَدُ انعكاسٌ بينَ المادَّةِ والدماغِ، فَلا الدِّمَاغُ يَنعَكِسُ عَلَى المادَّةِ، وَلا المَادَّةُ تَنعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ، لأنَّ الانعِكَاسَ يَحتَاجُ إِلَى وُجُودِ قَابِلِيَّةِ الانعِكَاسِ فِي الشَّيءِ الَّذِي يَعكِسُ الأشْيَاءَ كَالْمِرْآةِ، فإنَّها تَحتَاجُ إِلَى قَابِليَّةِ الانعِكَاسِ عَلَيهَا، وَهَذَا غَيرُ مَوجُودٍ، لا فِي الدِّمَاغِ وَلا فِي الوَاقِعِ المادِّيِّ. وَلِذَلِكَ لا يُوجَدُ انعِكَاسٌ بَينَ المَادَّةِ وَالدِّمَاغِ مُطلقاً، لأنَّ المادَّةَ لا تَنعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ، وَلا تَنْتَقِلُ إِلَيهِ بَلْ يَنْتَقِلُ الإِحْسَاسُ بِالمَادَّةِ إِلَى الدِّمَاغِ بَوَاسِطَةِ الحَوَاسِّ. وَنَقلُ الإِحسَاسِ بِالمادَّةِ إِلَى الدِّمَاغِ لَيسَ انعِكَاسًا لِلمَادَّةِ عَلَى الدِّمَاغِ، وَلا انعِكَاسًا لِلدِّمَاغِ عَلَى المادَّةِ، وَإنمَّا هُوَ حِسٌّ بِالمادَّةِ، وَلا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ العَيْنِ وَغَيرِهَا منَ الحَوَاسِّ، فَيَحْصُلُ مِنَ اللَّمْسِ، وَالشَمِّ، وَالذَوْقِ، وَالسَّمْعِ، إِحْسَاسٌ كَمَا يَحْصُلُ مِنَ الإِبْصَارِ. إِذاً فَالَّذِي يَحصُلُ مِنَ الأشيَاءِ لَيسَ انعِكَاسًا عَلَى الدِّمَاغِ، وَإنَّما هُوَ حِسٌّ بِالأشيَاءِ. فَالإنسَانُ يُحِسُّ بِالأشيَاءِ بَوَسَاطَةِ حَوَاسِّهِ الخَمْسِ، وَلا تُعْكَسُ عَلَى دِمَاغِهِ الأشْيَاءُ. وَالثَّانِي أنَّ الحِسَّ وَحْدَهُ لا يَحصُلُ مِنْهُ فِكْرٌ، بَلِ الَّذِي يَحصُلُ هُوَ الحِسُّ فَقَطْ، أيِ الإِحسَاسُ بِالوَاقِعِ، وَإِحسَاسٌ زَائِدُ إِحْسَاسٍ، زَائِدُ ملْيُونِ إِحسَاسٍ، مَهْمَا تَعَدَّدَ نَوعُ الإِحسَاسِ، إنَّمَا يَحصُلُ مِنهُ إِحسَاسٌ فَقَطْ، وَلا يَحصُلُ فِكرٌ مُطْلَقًا، بَلْ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ عِندَ الإنسَانِ يُفَسِّرُ بَوَسَاطَتِهَا الوَاقِعَ الَّذِي أحَسَّ بِهِ حتَّى يَحصُلَ فِكرٌ. وَلْنَأْخُذِ الإنسَانَ الحَالِيَّ، أيَّ إِنسَانٍ وَنُعطِهِ كِتَابًا سِرْيَانِيًّا، وَلا تُوجَدُ لَدَيهِ أيَّةُ مَعلُومَاتٍ تَتَّصِلُ بِالسِّرْيانِيَّةِ، وَنَجعَلْ حِسَّهُ يَقَعُ عَلَى الكِتَابِ، بِالرُؤْيَةِ، وَاللمْسِ، وَنُكَرِّرْ هَذَا الحِسَّ مِلْيونَ مَرَّةٍ، فإنَّهُ لا يُمكِنُ أنْ يَعرِفَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، حتَّى يُعْطَى مَعلُومَاتٍ عَنِ السِّريَانيَّةِ، وَعَمَّا يَتَّصِلُ بِالسِّريَانِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَبدَأُ يُفَكِّرُ بِهَا وَيُدْرِكُهَا. وَكَذَلِكَ لِنَأْخُذِ الطِّفْلَ الَّذِي وُجِدَ عندَهُ الإِحْسَاسُ وَلَمْ تُوجَدْ عِندَهُ أيَّةُ مَعلُومَاتٍ، وَلْنَضَعْ أمَامَهُ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وَقِطْعَةَ نُحَاسٍ، وَحَجَرَاً، ونَجْعَلْ جَمِيعَ إِحسَاسَاتِهِ تَشْتَرِكُ فِي حِسِّ هَذِهِ الأشيَاءِ، فإنَّهُ لا يُمكِنُهُ أنْ يُدْرِكَهَا، مَهْمَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الإِحسَاسَاتُ وَتَنَوَّعَتْ. وَلَكِنْ إِذَا أُعْطِيَ مَعلُومَاتٍ عَنهَا، وَأحَسَّهَا فَإنَّهُ يَستَعْمِلُ المَعلُومَاتِ ويُدْرِكُهَا. وَهَذَا الطِّفْلُ لَوْ كَبُرَتْ سِنُّهُ, وَبَلغَ عِشرِينَ سَنَةً وَلَمْ يَأخُذْ أيَّةَ مَعلُومَاتٍ, فَإنَّهُ يَبْقَى كَأوَّلِ يَومٍ يُحِسُّ بِالأشْيَاءِ فَقَطْ, وَلا يُدرِكُهَا مَهْمَا كَبُرَ دِمَاغُهُ، لأنَّ الَّذِي يَجعَلُهُ يُدرِكُ لَيسَ الدِّمَاغُ، وَإِنَّمَا هُوَ المَعلُومَاتُ السَّابِقَةُ مَعَ الدِّمَاغِ، وَمَعَ الوَاقِعِ الَّذِي يُحِسُّهُ. هَذَا مِنْ نَاحِيَةِ الإِدرَاكِ العَقْلِيِّ، أمَّا منْ نَاحِيَةِ الإِدرَاكِ الشُعُورِيِّ فَإِنَّهُ نَاتِجٌ عَنِ الغَرَائِزِ وَالحَاجَاتِ العُضْوِيَّةِ، وَالَّذِي يَحصُلُ عِندَ الحَيوَانِ فَإنَّهُ يَحصُلُ عِنْدَ الإِنسَانِ، فَيَعرِفُ مِنْ تِكْرَارِ إِعطَائِهِ التُفَّاحَةَ وَالحَجَرَ أنَّ التُفَّاحَةَ تُؤْكَلُ وَالحَجَرَ لا يُؤكَلُ، كَمَا يَعرِفُ الحِمَارُ أنَّ الشَعِيرَ يُؤكَلُ وَأنَّ التُرَابَ لا يُؤكَلُ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ لَيسَ فِكْراً، وَلا إِدْرَاكاً، وَإنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِلغَرَائِزِ وَلِلحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ، وَهُوَ مَوجُودٌ عِنْدَ الحَيوَانِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الإِنسَانِ، وَلِذَلِكَ لا يُمكِنُ أنْ يَحْصُلَ فِكْرٌ إِلاَّ إِذَا وُجِدَتِ المَعلُومَاتُ السَّابِقَةُ مَعَ نَقْلِ الإِحسَاسِ بِالوَاقِعِ بِوَاسِطَةِ الحَوَاسِّ إِلَى الدِّمَاغِ.

 

وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يُمكِنُ إِجْمَالُ أبرَزِ الأفكَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الفَقرَةِ بِمَا يَأتِي:

 

1. يُؤَكِّدُ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ أنَّ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الإسلاميَّةَ هِيَ وَحْدَهَا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَمَا عَدَاهَا قِيَادَاتٌ فِكرِيَّةٌ فَاسِدَةٌ لِسَبَبَينِ اثنَينِ:

 

1) لأنَّهَا وَحدَهَا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ المَبْنِيَّةُ عَلَى العَقْلِ.

 

2) لأنَّهَا وَحَدَهَا القِيَادَةُ الفِكرِيَّةُ الَّتِي تَتَّفِقُ مَعَ فِطْرَةِ الإِنسَانِ.

 

2. يُخَطِّئُ القِيَادَةَ الفِكرِيَّةَ الشُّيوعِيَّةَ فِي قَولِهَا: “إِنَّ المَادَّةَ تَسْبِقُ الفِكْرَ، أيْ تَسْبِقُ العَقْلَ، وَلِذَلِكَ فَالمَادَّةُ حِينَ تَنْعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ تُوجِدُ بِهِ الفِكْرَ”. هَذَا القَولُ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

 

الوَجْهِ الأوَّلِ: أنَّهُ لا يُوجَدُ انعِكَاسٌ بَينَ المادَّةِ وَالدِّمَاغِ، فَلا الدِّمَاغُ يَنعَكِسُ عَلَى المادَّةِ، وَلا المَادَّةُ تَنعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ, وَذَلِكَ للأَسبَابِ الآتِيَةِ:

 

1) لأنَّ الانعِكَاسَ يَحتَاجُ إِلَى وُجُودِ قَابِلِيَّةِ الانعِكَاسِ فِي الشَّيءِ الَّذِي يَعكِسُ الأشْيَاءَ.

 

2) لأنَّ قَابِليَّةِ الانعِكَاسِ غَيرُ مَوجُودَةٍ، لا فِي الدِّمَاغِ وَلا فِي الوَاقِعِ المادِّيِّ.

 

3) لأنَّ المادَّةَ لا تَنعَكِسُ عَلَى الدِّمَاغِ، وَلا تَنْتَقِلُ إِلَيهِ بَلْ يَنْتَقِلُ الإِحْسَاسُ بِالمَادَّةِ إِلَى الدِّمَاغِ بَوَاسِطَةِ الحَوَاسِّ.

 

4) لأنَّ نَقلَ الإِحسَاسِ بِالمادَّةِ إِلَى الدِّمَاغِ لَيسَ انعِكَاسًا لِلمَادَّةِ عَلَى الدِّمَاغِ، وَلا انعِكَاسًا لِلدِّمَاغِ عَلَى المادَّةِ، وَإنمَّا هُوَ حِسٌّ بِالمادَّةِ.

 

5) لأنَّه لا فَرْقَ فِي نَقلِ الإِحسَاسِ بَيْنَ العَيْنِ وَغَيرِهَا منَ الحَوَاسِّ، فَيَحْصُلُ مِنَ اللَّمْسِ، وَالشَمِّ، وَالذَوْقِ، وَالسَّمْعِ، إِحْسَاسٌ كَمَا يَحْصُلُ مِنَ الإِبْصَارِ.

 

6) لأنَّ الَّذِي يَحصُلُ مِنَ الأشيَاءِ لَيسَ انعِكَاسًا عَلَى الدِّمَاغِ، وَإنَّما هُوَ حِسٌّ بِالأشيَاءِ. فَالإنسَانُ يُحِسُّ بِالأشيَاءِ بَوَسَاطَةِ حَوَاسِّهِ الخَمْسِ، وَلا تُعْكَسُ عَلَى دِمَاغِهِ الأشْيَاءُ.

 

الوَجْهِ الثَّانِي: أنَّ الحِسَّ وَحْدَهُ لا يَحصُلُ مِنْهُ فِكْرٌ، بَلِ الَّذِي يَحصُلُ هُوَ الإِحسَاسُ بِالوَاقِعِ فَقَط, وَذَلِكَ لسبَبَينِ اثنَينِ:  

 

1) لأنَّ إِحسَاسًا زَائِدَ إِحْسَاسٍ، زَائِدَ ملْيُونِ إِحسَاسٍ، مَهْمَا تَعَدَّدَ نَوعُ الإِحسَاسِ، إنَّمَا يَحصُلُ مِنهُ إِحسَاسٌ فَقَطْ، وَلا يَحصُلُ فِكرٌ مُطْلَقًا.

 

2) لأنَّه لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ عِندَ الإنسَانِ يُفَسِّرُ بَوَسَاطَتِهَا الوَاقِعَ الَّذِي أحَسَّ بِهِ حتَّى يَحصُلَ فِكرٌ.

 

يُورِدُ الشَّيخُ ثَلاثَةَ أمثِلَة عَلَى ضَرُورَةِ وُجُودِ المَعلُومَاتِ السَّابِقَةِ كَي تَتِمَّ العَمَلِيَّةُ العَقلِيَّةُ:

 

1. لِنَأْخُذِ الإنسَانَ الحَالِيَّ، أيَّ إِنسَانٍ وَنُعطِهِ كِتَابًا سِرْيَانِيًّا، وَلا تُوجَدُ لَدَيهِ أيَّةُ مَعلُومَاتٍ تَتَّصِلُ بِالسِّرْيانِيَّةِ، وَنَجعَلْ حِسَّهُ يَقَعُ عَلَى الكِتَابِ، بِالرُؤْيَةِ، وَاللمْسِ، وَنُكَرِّرْ هَذَا الحِسَّ مِلْيونَ مَرَّةٍ، فإنَّهُ لا يُمكِنُ أنْ يَعرِفَ كَلِمَةً وَاحِدَةً، حتَّى يُعْطَى مَعلُومَاتٍ عَنِ السِّريَانيَّةِ.

 

2. وَكَذَلِكَ لِنَأْخُذِ الطِّفْلَ الَّذِي وُجِدَ عندَهُ الإِحْسَاسُ, وَلَمْ تُوجَدْ عِندَهُ أيَّةُ مَعلُومَاتٍ، وَلْنَضَعْ أمَامَهُ قِطْعَةَ ذَهَبٍ، وَقِطْعَةَ نُحَاسٍ، وَحَجَرَاً، ونَجْعَلْ جَمِيعَ إِحسَاسَاتِهِ تَشْتَرِكُ فِي حِسِّ هَذِهِ الأشيَاءِ، فإنَّهُ لا يُمكِنُهُ أنْ يُدْرِكَهَا، مَهْمَا تَكَرَّرَتْ هَذِهِ الإِحسَاسَاتُ وَتَنَوَّعَتْ. وَلَكِنْ إِذَا أُعْطِيَ مَعلُومَاتٍ عَنهَا، وَأحَسَّهَا فَإنَّهُ يَستَعْمِلُ المَعلُومَاتِ ويُدْرِكُهَا.

 

3. هَذَا الطِّفْلُ لَوْ كَبُرَتْ سِنُّهُ, وَبَلغَ عِشرِينَ سَنَةً وَلَمْ يَأخُذْ أيَّةَ مَعلُومَاتٍ, فَإنَّهُ يَبْقَى كَأوَّلِ يَومٍ يُحِسُّ بِالأشْيَاءِ فَقَطْ, وَلا يُدرِكُهَا مَهْمَا كَبُرَ دِمَاغُهُ، لأنَّ الَّذِي يَجعَلُهُ يُدرِكُ لَيسَ الدِّمَاغُ، وَإِنَّمَا هُوَ المَعلُومَاتُ السَّابِقَةُ مَعَ الدِّمَاغِ، وَمَعَ الوَاقِعِ الَّذِي يُحِسُّهُ.

 

bloogh almaram 23 2

 

وَفِي هَذَا المَقَامِ تَحضُرُنِي قِصَّةٌ طَرِيفَةٌ حَدَثَتْ فِي أربَعِينَاتِ القَرنِ العِشرِينَ عَلَى أرْضِ فِلَسطِينَ الحَبِيبَةِ مَعَ امرَأةٍ لا تَقرَأُ وَلا تَكتُبُ, وَقَد سَافَرَ ابنُهَا لِيَتَلَقَّى عُلُومَهُ الجَامِعِيَّةَ, وَيُتِمَّ دِرَاسَاتِهِ العُليَا فِي بِلادِ الغَربِ, وَكَانَ يَبعَثُ كُلَّ بِضعَةِ أشْهُرٍ بِرِسَالَةٍ إِلَى أهلِهِ لِيُطَمئِنَهُمْ فِيهَا عَنْ نَفسِهِ, وَيُعَبِّرَ عَنْ أشوَاقِهِ إِلَيهِم, وَصَلَتْ رسَالَةٌ مِنْ هَذَا الشَّابِّ الجَامِعِيِّ إِلَى هَذِهِ المَرأةِ المُتَلَهِّفَةِ إِلَى سَمَاعِ الأخْبَارِ السَّارَّةِ عَنِ ابنِهَا, وَلَكِنْ مَا حِيلَتُهَا وَهِيَ لا تَعرِفُ القِرَاءَةَ وَلا الكِتَابَةَ؟؟ لَقَد خَرَجَتْ مِنْ بَيتِهَا وَمَعَهَا الرِّسَالَةَ تَلتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالاً لَعَلَّهَا تَجِدُ مَنْ يَشفِي صَدرَهَا بِقِرَاءَةِ رِسَالَةِ وَلَدِهَا!! نَظَرَتْ مِنْ بَعِيدٍ فَرَأتْ إِمَامَ المَسجِدِ وَشَيخَ القَريَةِ يَلبَسُ العَمَامَةَ عَلَى رَأسِهِ, وَيرتَدِي لِبَاسَ العُلَمَاءِ, وَكَانَ الشَّيخُ يَركَبُ حِمَارًا قَصِيرَ القَامِةِ, وَيُدِلِّي مِنْ فَوقِهِ رِجْلَيهِ حَتَّى تَكَادَا مَسَاسَ الأرْضِ. قَالَتْ فِي نَفسِهَا: هَذَا هُوَ الشَّخصُ القَادِرُ عَلَى قِرَاءَةِ رِسَالَةِ وَلَدِي! انتَظَرَتْهُ حَتَّى اقتَرَبَ مِنهَا, فَنَادَتهُ مِنْ بَعِيدٍ قَبلَ أنْ يَصِلَ, وَاستَوقَفَتْهُ وَطَلَبَتْ إِلَيهِ أنْ يَقرَأ لَهَا رِسَالَةَ وَلَدِهَا. وَكَمْ كَانَتْ مُفَاجَأتُهَا عَظِيمَةً بِأنَّ هَذَا الشَّيخَ مِثلُهَا لا يَعرِفُ القِرَاءَةَ وَلا الكِتَابَة!! وَلَمْ تُصَدِّقِ المَرأةُ ذَلِكَ, وَأصَرَّتْ عَلَى أنْ يَقرَأَ الشَّيخُ لَهَا الرِّسَالَةَ, حَاوَلَ الشَّيخُ إِقنَاعَهَا, لَكِنْ دُونَ فَائِدَةٍ, فَمَا كَانَ مِنهُ إلاَّ أنْ خَلَعَ عِمَامَتَهُ وَوَضَعَهَا عَلَى رَأسِ حِمَارِهِ, وَفَتَحَ الرِّسَالَةَ وَوَضَعَهَا أمَامَ عَينَي الحِمَارِ, وَقَالَ مُخَاطِبًا إِيَّاهُ: اقرَأ لَهَا هَذِهِ الرِّسَالَةَ!!

 

وَفِي خِتَامِ هَذِهِ الفَقْرَةِ يُفَرِّقُ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ بَينَ نَوعَينِ مِنَ الإِدرَاكِ: الإِدرَاكِ العَقْلِيِّ، وَالإِدرَاكِ الشُعُورِيِّ:

 

1. الإِدرَاكُ العَقلِيُّ: هُوَ نَقلُ الحِسِّ بِالوَاقِعِ بِوَسَاطَةِ الحَوَاسِّ إِلَى الدِّمَاغِ مَعَ وُجُودِ مَعلُومَاتٍ سَابِقَةٍ يُفَسَّرُ بِوَسَاطَتِهَا هَذَا الوَاقِعُ.

 

2. الإِدرَاكِ الشُعُورِيِّ: نَاتِجٌ عَنِ الغَرَائِزِ وَالحَاجَاتِ العُضْوِيَّةِ، وَالَّذِي يَحصُلُ عِندَ الحَيوَانِ فَإنَّهُ يَحصُلُ عِنْدَ الإِنسَانِ، فَيَعرِفُ مِنْ تِكْرَارِ إِعطَائِهِ التُفَّاحَةَ وَالحَجَرَ أنَّ التُفَّاحَةَ تُؤْكَلُ وَالحَجَرَ لا يُؤكَلُ، كَمَا يَعرِفُ الحِمَارُ أنَّ الشَعِيرَ يُؤكَلُ وَأنَّ التُرَابَ لا يُؤكَلُ.

 

ثُمَّ يَستَدرِكُ الشَّيخُ حَدِيثَهُ عَنِ الإِدرَاكِ الشُّعُورِيِّ فَيَقُولُ: وَلَكِنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ لَيسَ فِكْراً، وَلا إِدْرَاكاً، وَإنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ لِلغَرَائِزِ وَلِلحَاجَاتِ العُضوِيَّةِ، وَهُوَ مَوجُودٌ عِنْدَ الحَيوَانِ كَمَا هُوَ عِنْدَ الإِنسَانِ، وَلِذَلِكَ لا يُمكِنُ أنْ يَحْصُلَ فِكْرٌ إِلاَّ إِذَا وُجِدَتِ المَعلُومَاتُ السَّابِقَةُ مَعَ نَقْلِ الإِحسَاسِ بِالوَاقِعِ بِوَاسِطَةِ الحَوَاسِّ إِلَى الدِّمَاغِ.

 

أيها المؤمنون:

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

 

boloogh-almaraam-nedham-aleslaam-annaadee-54.pdf