بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح76) “كتاب: “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” (ج1)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ وَالسَّبعِينَ, وَعُنوَانُهَا: “الاتِّجَاهَاتُ الوَطَنِيَّةُ فِي الأدَبِ المُعَاصِرِ”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتين: الرَّابِعَةِ وَالسِّتِينَ, وَالخَامِسَةِ وَالستينَ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: “أمَّا الحَضَارَةُ الإِسْلامِيَّةُ فإِنَّهَا تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ هُوَ النَقِيضُ مِنْ أَسَاسِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ، وتَصْوِيرُهَا للحَيَاةِ غَيْرُ تَصْوِيرِ الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ لَهَا، ومَفْهُومُ السَعَادَةِ فِيهِا يَخْتَلِفُ عَنْ مَفْهُومِهَا في الحَضَارَةِ الغَرْبِيَّةِ كُلَّ الاخْتِلافِ”.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: فِي هَذِهِ الحَلْقَةِ نُتَابِعُ مَعَكُمْ حَدِيثَنَا الَّذِي كُنَّا قَدْ بَدَأنَاه عَمَّا كَتَبَهُ الدُّكتُور مُحَمَّد مُحَمَّد حُسَين فِي كِتَابِهِ “الاتِّجَاهَاتُ الوَطَنِيَّةُ فِي الأدَبِ المُعَاصِرِ” فَهُوَ مِنَ المُتَأثِّرِينَ بِفِكْرِ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَوضُوعِ “القَومِيَّةِ وَالوَطَنِيَّةِ”.
يَقُولُ المُؤَلِّفُ – رَحِمَهُ اللهُ – فِي الصَّفحَتَينِ الثَّانِيَةِ وَالثَّمَانِينَ, وَالثَّالِثَةِ وَالثَّمَانِينَ: ” … أو بِتَعبِيرٍ أدَقَّ يَتَحَدَّثُ عَنِ الوَطَنِ حَدِيثَ العَقْلِ, فَهُوَ لا يَستَهدِفُ إِثَارَةَ النَّاسِ, وَلَكِنَّهُ يُحَاوِلُ إِقنَاعَهُمْ, وَهُوَ لا يَتَغَنَّى بِالوَطَنِ المَحبُوبِ, وَلَكِنَّهُ يَتَحَدَّثُ عَنِ النَّفعِ المَادِّيِّ, وَالمَصلَحَةِ المُشتَرَكَةِ الَّتِي تَجمَعُ بَينَ سَاكِنِيهِ, وَكِلا الفَرِيقَينِ كَانَ مُتَأثِّرًا تَأثُّرًا وَاضِحًا بِالتَّفكِيرِ الأُورُوبِيِّ, وَبِالدَّعوَاتِ القَومِيَّةِ الَّتِي أصبَحَتْ بِدَعَ العَصْرِ فِي القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ وَالعِشرِينَ. بَيدَ أنَّ القَرْنَ الأَوَّلَ قَد حَوَّرَ مَا نَقَلَ بِمَا يُلائِمُ الظُّرُوفَ السَّائِدَةَ وَقْتَذَاكَ, وَأحسَنَ تَقدِيمَهُ لِجُمهُورِ النَّاسِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤمِنُونَ بِالجَامِعَةِ الإِسلامِيَّةِ إِيمَانًا شَدِيدًا, بَينَمَا نَقَلَ الفَرِيقُ الآخَرُ هَذِهِ الدَّعوَةَ الأُورُوبِيَّةَ نَقلاً أمِينًا – أو أعْمَى إِنْ شِئْتَ – لا تَحرِيفَ فِيهِ, وَلا تَبدِيلَ, فَفَجَأَ بِهِ السَّامِعِينَ. يَقُولُ مُصطَفَى كَامِل مِن خُطْبَةٍ لَهُ فِي حَدِيقَةِ الأَزبَكِيَّةِ سَنَةَ 1897م: “… إِنَّ الوَطَنِيَّةَ مِنْ أشْرَفِ الرَّوَابِطِ لِلأفرَادِ, وَالأسَاسِ المَتِينِ الَّذِي تُبنَى عَلَيهِ الدُّوَلُ القَوِيَّةُ وَالمَمَالِكُ الشَّامِخَةُ, وَكُلُّ مَا تَرَونَهُ فِي أُورُوبَا مِنْ آثَارِ العُمرَانِ وَالمَدَنِيَّةِ, مَا هُوَ إِلاَّ ثِمَارُ الوَطَنِيَّةِ. أصْبَحَ اليَومَ الوَطَنُ المِصْرِيُّ يَنتَظِرُ مِنْكُمْ, وَمِنْ بَقِيَّةِ أبنَائِهِ عَدلاً وَإِنصَافًا. أصْبَحَتْ مِصْرُ تُؤَمِّلُ مِنكُمْ أنْ تَرفَعُوهَا إِلَى مَنَصَّةِ الحُرِيَّةِ وَالاستِقلالِ, وَأنْ تَرُدُّوا إِلَيهَا حُقُوقًا وَهَبَهَا إِيَّاهَا الخَالِقُ عَزَّ وَجَلَّ, وَلا رَيبَ أنَّكُم مَعشَرَ المُتَعَلِّمِينَ, مَعشَرَ النَّابِغِينَ فِي المَعَارِفِ وَالآدَابِ أوَّلُ مَنْ يُسْألُ عَنْ خِدْمَةِ مِصْرَ, وَتَأيِيدِ مَبدَأ الوَطَنِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ, فَإِنَّكُمْ قَرَأتُم فِي التَّارِيخِ الأمثَالَ الكَثِيرَةَ الوَطَنِيَّةَ, وَعَرَفتُم سِيرَ أنَاسٍ عَدِيدِينَ مَاتُوا مَحَبَّةً لِبِلادِهِم, وَإِخلاصًا لأوطَانِهِم, فَحَيَوا بِمَوتِهِم, وَأدرَكْتُم أنَّ الحَيَاةَ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ, وَأنْ لا شَرَفَ لَهَا بِغَيرِ الوَطَنِيَّةِ, وَالعَمَلِ لإِعلاءِ شَأنِ الوَطَنِ وَبَنِيةِ”.
وَيَقُولُ مِنْ خُطبَةٍ لَهُ فِي الاسكَندَرِيَّةِ سَنَةَ 1900م: “… وَقَد يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أنَّ الدِّينَ يُنَافِي الوَطَنِيَّةَ, أو أنَّ الدَّعوَةَ إلَى الدِّينِ لَيسَتْ مِنَ الوَطَنِيَّةِ فِي شَيءٍ, وَلَكِنْ أرَى أنَّ الدِّينَ وَالوَطَنِيَّةَ تَوأمَانِ مُتَلازِمَانِ, وَأنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَتَمَكَّنُ الدِّينُ مِنْ فُؤَادِهِ, يُحِبُّ وَطَنَهُ حُبًّا صَادِقًا, وَيَفدِيهِ بِرُوحِهِ, وَمَا تَملِكُ يَدَاهُ, وَلَسْتُ فِيمَا أقُولُ مُعتَمِدًا عَلَى أقوَالِ السَّالِفِينَ الَّذِينَ رُبَّمَا اتَّهَمَهُمْ أبنَاءُ العَصْرِ الحَدِيثِ بِالتَّعَصُّبِ وَالجَهَالَةِ, وَلَكِنِّي أستَشهِدُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا المَبدَأ بِكَلِمَةِ “بِسْمَارك” أكبَرِ سَاسَةِ هَذَا العَصْرِ, وَهُوَ رَجُلٌ خَدَمَ بِلادَهُ, وَرَفَعَ شَأنَهَا, فَقَد قَالَ هَذَا الرَّجُلُ العَظِيمُ بِأعْلَى صَوتِهِ: “لَو نَزَعْتُمُ العَقِيدَةَ مِنْ فُؤَادِي لَنَزَعتُمْ مَعَهَا مَحَبَّةَ الأوطَانِ”.
مِنْ هَذِهِ المقُتَطَفَاتِ يَستَطِيعُ القَارِئُ أنْ يَتَبَيَّنَ مَدَى التَّأثِيرِ الأُورُوبِيِّ فِي تَفكِيرِ رَائِدِ الوَطَنِيَّةِ الحَدِيثَةِ فِي مِصْرَ مِنْ نَاحِيَةٍ, وَرَبطِهِ بَينَ الوَطَنِيَّةِ وَالدِّينِ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخرَى. أمَّا حَدِيثُهُ العَاطِفِيُّ عَنِ الوَطَنِ الَّذِي هُوَ أشْبَهُ الأشيَاءِ بِحَدِيثِ العَاشِقِ عَنْ مَعشُوقِهِ, وَالَّذِي يُصَوِّرُ هُيَامًا رُوحِيًا صَادِقًا, هُوَ أقرَبُ الأشيَاءِ شَبَهًا بِهُيَامِ المُتَصَوِّفَةِ, فَهُوَ جَلِيٌّ وَاضِحٌ فِي خُطَبِهِ, وَفِي كَثِيرٍ مِنْ كِتَابَاتِهِ, وَيَكفِي أنْ أُقَدِّمَ عَلَيهِ مَثلاً وَاحِدًا مِنْ خُطبَتِهِ فِي الاسكَندَرِيَّةِ سَنَةَ 1907م, وَهِيَ أكْبَرُ خُطَبِهِ وَأروَعُهَا عَلَى الإِطلاقِ: “تَقُولُونَ يَا أعْدَاءَ مِصْرَ: إِنَّنَا لَو أفْلَحْنَا لَمَا نِلْنَا هَذَا الاستِقلالَ إِلاَّ بَعدَ حِينٍ طَوِيلٍ, فَنُجِيبُكُمْ: إِنَّا لَو سَلَّمْنَا بِقَولِكُمْ لَمَا جَازَ لَنَا أنْ نَتَأخَّرَ لَحْظَةً وَاحِدَةً عَنِ العَمَلِ؛ لأنَّنَا لا نَعمَلُ لأنفُسِنَا, بَلْ نَعمَلُ لِوَطَنِنَا, وَهُوَ بَاقٍ وَنَحنُ زَائِلُونَ, وَمَا قِيمَةُ السِّنِينَ وَالأيَامِ فِي حَيَاةِ مِصْرَ, وَهِيَ الَّتِي شَهِدَتْ مَولِدَ الأُمَمِ كُلِّهَا, وَابتَكَرَتِ المَدَنِيَّةَ وَالحَضَارَةَ لِلنَّوعِ الإِنسَانِيِّ كُلِّهِ؟ إِنَّ العَامِلَ الوَاثِقَ مِنَ النَّجَاحِ يَرَى النَّجَاحَ أمَامَهُ كَأنَّهُ أمْرٌ وَاقِعٌ, وَنَحنُ نَرَى مِنَ الآنِ هَذَا الاستِقلالَ المِصْرِيَّ, وَنبتَهِجُ بِهِ, وَنَدعُو لَهُ كَأنَّهُ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ, وَسَيَكُونَ كَذَلِكَ لا مَحَالَةَ”. فَمَهْمَا تَعَدَّدَتِ اللَّيَالِي وَتَعَاقَبَتِ الأيَّامُ, وَأتَى بَعدَ الشُّرُوقِ شُرُوقٌ, وَأعقَبَ الغُرُوبَ غُرُوبٌ فَإِنَّنَا لا نَمَلُّ وَلا نَقِفُ فِي الطَّرِيقِ, وَلا نَقُولُ أبَدًا: لَقَدْ طَالَ الانتِظَارُ!!”.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.