بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح98) مشروع الدستور – أحكام عامّة(ج1)
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا “بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام” وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالتِّسعِينَ, وَعُنوَانُهَا: “مَشرُوعُ الدُّستُور – أحكَامٌ عَامَّة”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الثَّانِيَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ “نظامُ الإسلام” لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
“المادة 1– العَقِيدَةُ الإِسلامِيَّةُ هِيَ أسَاسُ الدَّولَةِ، بِحَيثُ لا يَتَأتَّى وُجُودُ شَيءٍ فِي كَيَانِهَا أو جِهَازِهَا أو مُحَاسَبَتِهَا أو كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، إِلاَّ بِجَعْلِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ أسَاسًا لَهُ. وَهِيَ فِي الوَقْتِ نَفسِهِ أسَاسُ الدُّستُورِ وَالقَوَانِينِ الشَّرعِيَّةِ بِحَيثُ لا يُسمَحُ بِوُجُودِ شَيءٍ مِمَّا لَهُ عَلاقَةٌ بِأيٍّ مِنهُمَا إِلاَّ إِذا كَانَ مُنبَثِقًا عَنِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: بَعدَ أنْ ذَكَرَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ وُجُوبَ تَبَنِّي دُستُورٍ لِلدَّولَةِ, وَأَكَّدَ ضَرُورَةَ وُجُودِ مُقَدِّمَةٍ لَهُ, أخَذَ يَعرِضُ عَلَى المُسلِمِينَ مَشرُوعًا لِدُستُورِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنهَاجِ النُّبوَّةِ. وَهَذِهِ هِيَ المَادَّةُ الأُولَى مِنهُ, وَهِيَ تَشمَلُ أمرَينِ: الأمرُ الأوَّلُ هُوَ أنَّ العَقِيدَةَ الإِسلامِيَّةَ هِيَ أسَاسُ الدَّولَةِ, وَالأمرُ الثَّانِي هُوَ أنَّ العَقِيدَةَ الإِسلامِيَّةَ هِيَ أسَاسُ الدُّستُورِ. وَيُمكِنُ بَيَانُ الأَمرِ الأَوَّلِ مِنْ خِلالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ:
الأمر الأول: العقيدة الإسلامية هي أساس الدولة:
1. عُرِّفَتِ الدَّولَةُ بِأنَّها كَيانٌ تَنفِيذِيٌّ لِمَجمُوعَةِ المَفَاهِيمِ وَالمقَايِيسِ وَالقَنَاعَاتِ الَّتِي تَقبَّلتهَا مَجمُوعَةٌ مِنَ النَّاسِ, أي هِيَ سُلطَانٌ يَتَوَلَّى رِعَايَةَ المَصَالِحِ, وَيُشرِفُ عَلَى تَسيِيرِهَا.
2. مَجمُوعَةُ الأفكَارِ الَّتِي تَقُومُ عَلَيهَا الدَّولَةُ، أيْ مَجمُوعَةُ المَفَاهِيمِ وَالمَقَايِيسِ وَالقَنَاعَاتِ لا بُدَّ مِنْ أنْ تَكُونَ مَبنِيَّةً عَلَى فِكْرٍ أسَاسِيِّ؛ كَي تَكُونَ مَتِينَةَ البُنيَانِ, وَطِيدَةَ الأركَانِ, ثَابِتَةَ الكَيَانِ، تَستَنِدُ إِلَى أسَاسٍ مَا بَعدَهُ أسَاسٌ، وَالفِكْرُ الأسَاسِيُّ هُوَ الفِكرُ الَّذِي لا يُوجَدُ وَرَاءَهُ فِكْرٌ, أي أنَّهُ هُوَ العَقِيدَةُ العَقلِيَّةُ، فَتَكُونُ الدَّولَةُ حِينَئِذٍ مَبنِيَّةً عَلَى عَقِيدَةٍ عَقلِيَّةٍ.
3. الدَّولَةُ الإِسلامِيَّةُ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ، لأنَّ مَجمُوعَةَ المَفَاهِيمِ وَالمَقَايِيسِ وَالقَنَاعَاتِ الَّتِي تَقَبَّلتهَا الأمَّةُ إِنَّمَا تَنبَثِقُ عَنْ عَقِيدَةِ عَقلِيَّةٍ، وَقَدْ تَقبَّلَتِ الأمَّةُ أولاً هَذِهِ العَقِيدَةَ وَاعتَنقَتهَا عَقِيدَةً يَقِينِيَّةً عَنْ دَليلٍ قَطعِيِّ، فَكَانَتْ هَذِهِ العَقِيدَةُ هِيَ فِكرَتَهَا الكُلِّيةُ عَنِ الحَيَاةِ، وَبِحَسَبِهَا كَانَتْ نَظرَتُهَا إِلَى الحَيَاةِ, وَنَتَجَتْ عَنهَا نَظرَتُهَا إِلَى المَصَالِحِ، وَعَنهَا أخَذَتِ الأُمَّةُ مَجمُوعَةَ المَفَاهِيمِ وَالمَقَايِيسِ وَالقَنَاعَاتِ. وَلِذَلِكَ كَانَتِ العَقِيدَةُ الإِسلامِيَّةُ هِيَ أسَاسُ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ.
4. إِنَّ الدَّولَةَ الإِسلامِيَّةَ أقَامَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم عَلَى أسَاسٍ مُعَيَّنٍ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ هَذَا الأَسَاسُ هُوَ أسَاسَ الدَّولَةِ الإِسلامِيَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَإِنَّهُ عَلَيهِ السَّلامُ حِينَ أقَامَ السُّلطَانَ فِي المَدِينَةِ وَتَوَلَّى الحُكْمَ فِيهَا أقَامَهُ عَلَى العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ مِنْ أوَّلِ يَومٍ, وَلَمْ تَكُن آيَاتُ التَّشرِيعِ قَد نَزَلَتْ بَعدُ, فَاتَّخَذَ مَجمُوعَةً مِنَ القَرَارَاتِ وَمِنَ الأحكَامِ الَّتِي تُؤَكِّدُ أنَّ العَقِيدَةَ هِيَ أسَاسُ الدَّولَةِ, وَمِنْ هَذِهِ القَرَارَاتِ وَالأحكَامِ مَا يَأتِي:
1) جَعَلَ شَهَادَةَ أن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ, وَأنَّ مُحمَّدًا رَسُولُ اللهِ أسَاسَ حَيَاةِ المُسلِمِينَ, وَأَسَاسَ العَلاقَاتِ بَينَ النَّاسِ، وَأسَاسَ دَفْعِ التَّظَالُمِ, وَفَصلِ التَّخَاصُمِ، أيْ أسَاسَ الحَيَاةِ كُلِّهَا, وَأسَاسَ السُّلطَانِ وَالحُكْمِ.
2) شَرَعَ الجِهَادَ وَفَرَضَهُ عَلَى المُسلِمِينَ لِحَمْلِ هَذِهِ العَقِيدَةِ لِلنَّاسِ، قاَلَ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: “لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ”، فَإِنْ قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأموَالَهُمْ إلاّ بِحَقِّهَا».
3) جَعَلَ المُحَافَظَةَ عَلَى استِمرَار وُجُود العَقِيدَةِ أسَاسًا لِلدَّولَةِ فَرْضًا عَلَى المُسلِمِينَ, وَأمَرَ بِحَمْلِ السَّيفِ وَالقِتَالِ إِذَا ظَهَرَ الكُفرُ البَوَاحُ، أي إِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ العَقِيدَةُ أسَاسَ السُّلطَانِ وَالحُكْمِ.
4) جَعَلَ بَيعَةَ وَلِيَّ الأمرِ أنْ لا يُنَازِعَهُ المُسلِمُونَ فِيهَا إِلاَّ أنْ يَرَوا كُفرًا بَوَاحًا، فَفِي حَدِيثِ عَوفٍ بنِ مَالِكٍ عَنْ شِرَارِ الأئِمَّةِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أفَلا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيفِ؟ قَالَ: «لا، مَا أقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ».
5. مَا سَبَقَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أنَّ أسَاسَ الدَّولَةِ هُوَ العَقِيدَةُ الإِسلامِيَّةُ، إِذْ إِنَّ الرَّسُولَ أقَامَ السُّلطَانَ عَلَى أسَاسِهَا, وَأمَرَ بِحَمْلِ السَّيفِ فِي سَبِيلِ بَقَائِهَا أسَاسًا لِلسُّلطَانِ، وَأمَرَ بِالجِهَادِ مِنْ أجلِهَا.
6. بَنَاء عَلَى هَذَا وُضِعَتِ المَادَةُ الأُولَى مِنَ الدُّستُورِ، وَمَنَعَتْ مِنْ أنْ يَكُونَ لَدَى الدَّولَةِ أيُّ مَفهُومٍ أو قَنَاعَةٍ أو مِقيَاسٍ غَير مُنبَثِقٍ عَنِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ.
7. لا يَكفِي أنْ يُجعَلَ أسَاسُ الدَّولَة هُوَ العَقِيدَةُ الإِسلامِيَّةُ اسمًا فَقَط – كَمَا هُوَ حَاصِلٌ فِي دُوَيلاتِ المُسلِمِينَ الهَزِيلَةِ الَّتِي تَنُصُّ دَسَاتِيرُهَا عَلَى أنَّ دِينَ الدَّولَةِ هُوَ الإِسلامُ مِنْ غَيرِ أنْ يَكُونَ الإِسلامُ مُطَبَّقًا فِي وَاقِعِ الحَيَاةِ – بَلْ لا بُدَّ من أنْ يَكُونَ وُجُودُ هَذَا الأَسَاسِ فِيهَا ممثَّلاً فِي كُلِّ شَيءٍ يَتَعَلَّقُ بِوُجُودِهَا، وَفِي كُلِّ أمرٍ دَقَّ أو جَلَّ مِنْ كَافَّةِ أُمُورِهَا.
8. لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَدَى الدَّولَةِ أيُّ مَفهُومٍ عَنِ الحَيَاةِ أوِ الحُكْمِ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُنبَثِقًا عَنِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ, وَمِنَ الأمثِلَةِ عَلَى المَفَاهِيمِ غَيرِ المُنبَثِقَةِ عَنهَا مَا يَأتِي:
1) لا تَسمَحُ الدَّولَةُ بِمَفهُومِ الدِّيمُقرَاطِيَّةِ أنْ يُتَبَنَى فِي الدَّولَةِ لأنَّهُ غَيرُ مُنبَثِقٍ عَنِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ فَضْلاً عَنْ مُخَالَفَتِهِ لِلمَفَاهِيمِ المُنبَثِقَةِ عَنهَا.
2) لا يجوز أن يكون لمفهوم القومية أي اعتبار لأنه غير منبثق عن العقيدة الإسلامية فضلاً عن أن المفاهيم المنبثقة عنها جاءت تذمّه وتنهى عنه وتبين خطره.
3) لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ لِمَفهُومِ الوَطَنِيَّةِ أيُّ وُجُودٍ؛ لأنَّهُ غَيرُ مٌنبَثِقٍ عَنْ هَذِهِ العَقِيدَةِ فَضْلاً عَنْ أنَّهُ يُخَالِفُ مَا انبَثَقَ عَنهَا مِنْ مَفَاهِيمَ.
4) لا يُوجَدُ فِي أجهِزَةِ الدَّولَةِ وَزَارَاتٌ بِالمَفهُومِ الدِّيمُقرَاطِيِّ، وَلا فِي حُكمِهَا أيُّ مَفهُومٍ امبرَاطُورِيٍّ أو مَلَكِيٍّ أو جُمهُورِيٍّ؛ لأنَّهَا لَيسَتْ مُنبَثِقَةً عَنِ عَقِيدَةِ الإِسلام, وَهِيَ تُخَالِفُ المَفَاهِيمَ المُنبَثقَةِ عَنهَا.
5) يُمنَعُ مَنعًا بَاتًا أنْ تَجْرِيَ مُحَاسَبَتُهَا عَلَى أسَاسٍ غَيرِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ, لا مِنْ أفرَادٍ, وَلا مِنْ حَرَكَاتٍ, وَلا مِنْ تَكَتُّلاتٍ، فتُمنَعُ مِثلُ هَذِهِ المُحَاسَبَةُ الَّتِي تَقُومُ عَلَى أَسَاسٍ غَيرِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ.
6) يُمنَعُ قِيَامُ حَرَكَاتٍ أو تَكَتُّلاتٍ عَلَى أسَاسٍ غَيرِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ.
7) إِنَّ كَونَ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ أسَاسَ الدَّولَةِ يُحَتِّمُ أنْ يَكُونَ كُلُّ أمرٍ مُنبَثِقٍ عَنهَا, وَكُلُّ عَمَلٍ مُتَّصِلٍ بِهَا بِوَصفِهَا دَولَةً, وَكُلُّ عَلاقَةٍ تُوجَدُ مَعَهَا بِوَصفِهَا دَولَةً, يَجِبُ أنْ يَكُونَ أسَاسُهُ هُوَ عَقِيدَةُ الدَّولَةِ, وَهِيَ العَقِيدَةُ الإِسلامِيِّةُ.
الأمر الثاني: العقيدة الإسلامية هي أساس الدستور:
أمَّا الأمْرُ الثَّانِي فِي المَادَّةِ هُوَ أنَّ العَقِيدَةَ الإِسلامِيَّةَ هِيَ أسَاسُ الدُّستُورِ, فَإِلَيكُمْ الأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ خِلالِ النُّقَاطِ الآتِيَةِ:
1) الدُّستُورُ هُوَ القَانُونُ الأَسَاسِيُّ لِلدَّولَةِ، فَهُوَ قَانُونٌ، وَالقَانُونُ هُوَ أمرُ السُّلطَانِ، وَقَدْ أمَرَ اللهُ السُّلطَانَ أنْ يَحكُمَ بِمَا أنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَعَلَ مَنْ حَكَمَ بِغَيرِ مَا أنزَلَ اللهُ كَافِرًا إِنِ اعتَقَدَ بِهِ, وَاعتَقَدَ بِعَدَمِ صَلاحِيَّةِ مَا أنزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَهُ عَاصِيًا إِنْ حَكَمَ بِهِ, وَلَمْ يَعتَقِدْهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِ اللهِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ أسَاسَ مَا يَأمُرُ بِهِ السُّلطَانُ أي أسَاسَ القَانُونِ وَأسَاسَ الدُّستُورِ.
2) أَمَرَ اللهُ السُّلطَانَ بِأْن يَحكُمَ بِمَا أنزَلَ اللهُ أي بِالأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ فَثَابِتٌ فِي الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُمْ) وَقَالَ: (وَأَنِ احكُمْ بَينَهُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ).
3) حَصَرَ اللهُ تَعَالَى تَشرِيعَ الدَّولَةِ بِمَا أنزَلَ عَلَى رَسُولِهِ مُحَذِّرًا مِنَ الحُكمِ بِغَيرِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحكُمْ بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ عَمَلٍ لَيسَ عَلَيهِ أمرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». فَهَذَا يَدُلًّ عَلَى أنَّ تَشرِيعَاتِ الدَّولَةِ مَحصُورَةً بِمَا يَنبَثِقُ عَنِ العَقِيدَةِ الإِسلامِيَّةِ، وَهِيَ الأحكَامُ الشَّرعِيَّةُ الَّتِي نَعتَقِدُ أنَّ اللهَ أنزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، سَوَاءٌ أكَانَ إِنزَالُهَا صَرِيحًا بِأنْ قَالَ هَذَا حُكْمُ اللهِ, وَهُوَ مَا تَضَمَّنَهُ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ, وَمَا أجْمَعَ عَلَيهِ الصَّحَابَةُ بِأنَّهُ حُكمُ اللهِ، أمْ كَانَ إِنزَالُهَا غَيرَ صَرِيحٍ بِأنْ قَالَ هَذِهِ عَلامَةُ حُكْمِ اللهِ، وَهُوَ مَا يُؤخَذُ بِالقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ شَرعِيَّةٌ. وَلِهَذَا وُضِعَ الأمرُ الثَّانِي مِنَ المَادَّةِ.
4) تَنظِيمُ أفعَالِ العِبَادِ أتٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ لأنَّ خِطَابَ الشَّارِعِ جَاءَ مُلزِمًا إِيَّاهُمْ التَّقَيُّدَ بِهِ, وَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسلامِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِجَمِيعِ أفعَالِ النَّاسِ, وَجَمِيعِ عَلاقَاتِهِمْ سَوَاءٌ أكَانَتْ عَلاقَتُهُمْ مَعَ اللهِ أمْ عَلاقَتُهُمْ مَعَ أنفُسِهِمْ أمْ عَلاقَتُهُمْ مَعَ غَيرِهِمْ.
5) لا مَحَلَّ فِي الإِسلامِ لِسَنِّ قَوَانِينَ مِنْ قِبَلِ النَّاسِ لِتَنظِيمِ عَلاقَاتِهِمْ، فَهُمْ مُقَيَّدُونَ بِالأَحكَامِ الشَّرعِيَّةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنهُ فَانتَهُوا) وَقَالَ: (ومَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمِرِهِمْ) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أشيَاءَ فَلا تَنتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعتَدُوهَا». وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «وَمَنْ أَحْدَثَ فِي أمرِنَا هَذَا مَا لَيسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ».
6) اللهُ جَلَّ فِي عُلاهُ هُوَ الَّذِي شَرَعَ الأحكَامَ, وَلَيسَ السُّلطَانُ، وَهُوَ الَّذِي أجبَرَهُمْ, وَأجبَرَ السُّلطَانَ عَلَى اتِّبَاعِهَا فِي عَلاقَاتِهِمْ وَأعمَالِهِمْ، وَحَصَرَهُمْ بِهَا، وَمَنَعَهُمْ مِنَ اتِّبَاعِ غَيرِهَا. وَلِهَذَا لا مَحَلَّ لِلبَشَرِ فِي وَضْعِ أحكَامٍ لِتَنظِيمِ عَلاقَاتِ النَّاسِ، وَلا مَكَانَ لِلسُّلطَانِ فِي إِجبَارِ النَّاسِ أو تَخيِيرِهِمْ عَلَى اتِّبَاعِ قَوَاعِدَ وَأحكَامٍ مِنْ وُضْعِ البَشَرِ فِي تَنظِيمِ عَلاقَاتِهِمْ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.